للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عالي الهمة لا تعوقه العوائق]

إن عالي الهمة لا يعوقه عائق عن مقصده وعن مأربه، قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كبر سنهم.

وعنه عن ابن حماد قال: قيل لـ ابن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟! قال: حتى الممات إن شاء الله.

وعن ابن معاذ قال: سألت أبا عمرو بن العلاء: حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلم؟! قال: مادام تحسن به الحياة.

ويحدث الإمام ابن عقيل عن همته وهو في عشر الثمانين من عمره فيقول رحمه الله: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين -أي: في العقد الثامن من عمره- أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين.

يقول الشاعر في هذا: ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي ولا ولائي ولا ديني ولا كرمي وإنما اعتاض رأسي غير صبغته والشيب في الرأس غير الشيب في الهمم يعني: كل القضية أنها تحولت صبغة رأسه من الأسود إلى الأبيض، لكن هل همته -أيضاً شابت- واعتراها هذا الشيب؟!

الجواب

كلا، ولذا يقول: إذا كان شاب شعر رأسي ولحيتي فما شابت همتي.

وقال الحافظ الذهبي في ترجمة أبي الفرج بن الجوزي ما نصه: وقد قرأ وهو ابن ثمانين سنة بالعشر.

أي: كان الإمام ابن الجوزي له ثمانون سنة، ومع ذلك قرأ القراءات العشر، فقرأ القرآن الكريم بالقراءات العشر كلها على ابن الباقلاني، فتلا معه ولده يوسف، نقل ذلك ابن نقطة عن القاضي محمد بن أحمد بن الحسن.

وهذا الإمام ابن الجوزي هو الذي يقول في بعض الأشعار معبراً عن هذه الهمة العالية، وأنه كان يستزيد من الطلب ويدعو أن يزيد الله سبحانه وتعالى في عمره حتى يغتنم أقصى ما يستطيع في طلب العلم، يقول: الله أسأل أن يطول مدتي وأنال بالإنعام ما في نيتي لي همة في العلم ما من مثلها وهي التي جنت النحول هي التي كم كان لي من مجلس لو شبهت حالاته لتشبهت بالجنة وذهب الإمام القفال -وقيل له: القفال لأنه كان ماهراً في صناعة الأقفال- يطلب العلم وعمره أربعون سنة -أي: بدأ في طلب العلم وعمره أربعون سنة-، فقال لنفسه: كيف أطلب العلم؟! ومتى أحفظ؟! ومتى أفهم؟! ومتى أعلم الناس؟! فرجع، فمر بصاحب ساقية يسوق على البقر، وكان رشاء هذا الحبل يقطع الصخر من كثرة ما مر، أي أن الحبل الذي يدور به البقر على الساقية يحتك في أثناء دورانه بصخرة، فلطول الوقت أثر الحبل في الصخرة، حتى قطعها، فالحبل اللين أثر في الصخرة بالمثابرة والاستمرار والمداومة، فاتخذ من هذا عبرة ودرساً، فلما رأى الغشاء يقطع الصخر من كثرة ما مر قال: اطلب ولا تضجرن من مطلب فآفة الطالب أن يضجرا أما ترى الحبل بطول المدى في الصخرة الصماء قد أثرا أي: أليس الحبل مع المداومة قد أثر على الصخر الصلب؟ وليس هذا فحسب، بل الماء ألين من الحبل بلا شك، ومع ذلك فإن تساقط الماء قطرة قطرة على صخرة يحدث فيها أثراً بسبب المداومة والمثابرة.

واستمر الإمام القفال يطلب العلم، وصار إماماً من كبار الأئمة ومن جهابذة الدنيا.

ويروى أن الإمام أبا محمد ابن حزم رحمه الله تعالى طلب العلم وهو في السادسة والعشرين من عمره، قال أبو محمد بن العربي: وأقام أبو محمد في الوزارة من وقت بلوغه إلى انتهاء سنه ستاً وعشرين سنة، وقال: إنني بلغت إلى هذا السن ولا أدري كيف أجبر صلاة من الصلوات! وقال في رواية أخرى: أخبرني الشيخ الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة لرجل كبير من إخوان أبيه، فدخل المسجد قبل صلاة العصر والخلق فيه، فجلس ولم يركع، فقال له أستاذه المربي بإشارة: قم فصل تحية المسجد.

فلم يفهم، فقال له بعض المجاورين له: أبلغت هذا السن، ولا تعلم أن تحية المسجد واجبة؟! وهي واجبة في الحقيقة عند أهل الظاهر، أما جمهور العلماء فيقولون: هي سنة.

وكان قد بلغ حينئذٍ ستة وعشرين عاماً، قال: فقمت وركعت، وفهمت إشارة الأستاذ لي بذلك، قال: فلما انصرفنا من الصلاة على الجنازة إلى المسجد مشاركة للأحباء من أقرباء الميت دخلت المسجد -أي: بعدما انتهوا من الجنازة رجعوا إلى المسجد-، وكان الوقت بعد العصر، وحتى لا يتكرر الموقف المحرج مرة أخرى قال: وانصرفنا إلى المسجد مشاركة للأحباء من أقرباء الميت، ودخلت المسجد، فبادرت في الركوع، فقيل لي: اجلس اجلس؛ ليس هذا وقت وصلاة! فانصرفت عن الميت وقد خزيت، ولحقني ما هانت علي به نفسي، فقلت للأستاذ: دلني على دار الشيخ الفقيه المشاور أبي عبد الله بن دحون فدلني، فقصدته من ذلك المشهد، وأعلمته بما جرى، وسألته الابتداء بقراءة العلم، واسترشدته، فدلني على كتاب الموطأ لـ مالك بن أنس، فبدأت به عليه قراءة من اليوم التالي لذلك اليوم، ثم تتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحو ثلاثة أعوام، وبدأت المناظرة.

وكان يحيى النحوي في أول أمره ملاحاً يعبر الناس في سفينته، وكان يحب العلم كثيراً، فلما قويت رويته في العلم فكر في أمره، وقال: لقد بلغت نيفاً وأربعين سنة من العمر، وما ارتضيت بشيء، وما عرفت غير صناعة الملاحة، فكيف يمكنني أن أتعرض لشيء من العلوم؟ وفيما هو يفكر إذ رأى نملة قد حملت نواة تمرة، وهي دائبة تصعد بها.

وأظن أن النمل هو المخلوق الوحيد الذي يحمل أضعاف وزنه، ولكن لا أدري هل ذلك حقيقة علمية أم لا؟ فهو لما نشطت همته لطلب العلم وجد عمره قد جاوز الأربعين بعدة سنوات، وأثناء ما كان يفكر رأى نملة قد حملت نواة تمرة، وهي دائبة تصعد بها، فوقعت منها، فعادت وأخذتها، ولم تزل تجاهد مراراً حتى بلغت بالمجاهدة غرضها، فقال: إذا كان هذا الحيوان الضعيف قد بلغ غرضه بالمجاهدة والمراقبة فأولى بي أن أبلغ غرضي بالمجاهدة.

فخرج من وقته، وباع سفينته، ولزم دار العلم، وبدأ يتعلم النحو واللغة والمنطق، فبرع في هذه الأمور؛ لأنه أول ما ابتدأ بها، فنسب إليها، واشتهر بها فقيل: يحيى النحوي.

ووضع كتباً كثيرة، ويحيى هذا لقي عمرو بن العاص، وأعجب عمرو رضي الله تعالى عنه به.

وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء الذي ملأ الأرض علماً وعظمة نفس في أول أمره فقيراً ولم يشتغل بطلب العلم إلا على كبر.

واشتغل الشيخ أحمد بن إبراهيم بن الحسن القنائي في العلم وهو ابن ثلاثين سنة، وتفقه، وقرأ النحو وغيره، حتى مهر، وأم الناس ببلده، وكان يحفظ أربعمائة سطر في يوم واحد، ثم أقبل على الطاعة، ولازم الطاعة حتى توفي سنة (٧٢٨هـ)، وهذه السنة هي التي مات فيها شيخ الإسلام ابن تيمية.

وعُمِّر الشيخ يوسف بن رزق الله طويلاً حتى قارب التسعين، وثقل سمعه، لكن بقيت حواسه كلها سليمة، وهمته همة ابن ثلاثين، ومات وهو يباشر التوقيع، في صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة من الهجرة.

وطلب الشيخ أحمد بن عبد القادر القيسي الحنفي النحوي العلوم الكثيرة، وبرع فيها، فأقبل على طلب الحديث في آخر عمره، فتكلم بعض الناس عليه، أي أن بعض الناس سخروا منه، وقالوا: إن هذا الرجل الكبير يوشك على الموت، وبينه وبين القبر خطوات قليلة، فكيف يطلب العلم الآن؟! فأنكر عليهم بأبيات جميلة قال فيها: وعاب سماعي للأحاديث بعدما كبرت أناس هم إلى العيب أقرب وقالوا إمام في علوم كثيرة يروح ويغدو سامعاً يتطلب فقلت مجيباً عن مقالتهم وقد غدوت لجهل منهم أتعجب إذا استدرك الإنسان ما فات من علا بالحزم يعزى لا إلى الجهل ينسب وروى المعافى بن زكريا عن بعض الثقات أنه كان بحضرة أبي جعفر الطبري رحمه الله تعالى قبل موته، وتوفي بعد ساعة أو أقل منها، فذكر له دعاء من الأدعية عن جعفر بن محمد، فالإمام ابن جرير وهو يجود بروحه في آخر لحظات حياته رحمه الله تعالى استدعى محبرة وصحيفة، فكتب هذا الدعاء الذي سمعه من أحد العواد، فقيل له: أفي هذه الحال؟! أي: أنت الآن تموت، وتأتي بالورق وتكتب هذا الدعاء؟! فقال: ينبغي للإنسان أن لا يدع اقتباس العلم حتى الممات، فكانت همته في طلب العلم قوية إلى آخر رمق في الحياة.

وعن فرقد إمام مسجد البصرة أنهم دخلوا على سفيان في مرض موته، فحدثه رجل بحديث فأعجبه، فضرب سفيان يده إلى تحت فراشه، فأخرج ألواحاً، فكتب هذا الحديث، فقالوا له: على هذه الحال منك؟! فقال: إنه حسن، إن بقيت فقد سمعت حسناً، وإن مت فقد كتبت حسناً.

وعن الفقيه أبي الحسن علي بن عيسى الولوالجي قال: دخلت على أبي الريحان البيروني وهو يجود بنفسه، قد حشرج نفسه، وضاق به صدره، وروحه بلغت إلى الحلقوم، فقال لي في تلك الحال: كيف قلت لي يوماً حساب الجدات الفاسدات؟! يعني: كيف ترث الجدة الفاسدة؟ وهي الجدة التي من قبل الأم؛ فإنها تسمى في اصطلاح علماء الفرائض بالجدة الفاسدة، فقال له: كيف قلت لي يوماً حساب الجدات الفاسدات؟ قال: فقلت له إشفاقاً عليه: أفي هذه الحالة وأنت تموت؟! فقال لي: يا هذا! أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة.

ألا يكون خيراً من أن أخليها وأنا جاهل بها؟! فأعدت ذلك عليه -أي: أعدت عليه المسألة- وحفظه، وعلمني ما وعدني أن يعلمني، وخرجت من عنده وأنا في الطريق فسمعت الصراخ.

يعني: البكاء؛ لأن روحه كانت قد خرجت، فرحمه الله تعالى.

وقال القاضي إبراهيم ابن الجراح الكوفي تلميذ الإمام أبي يوسف القاضي

<<  <  ج: ص:  >  >>