يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: خلق بدن ابن آدم من الأرض، وروحه من ملكوت السماء، وقرن بينهما، فإذا أجاع بدنه وأفقره وأقامه في الخدمة وجدت روحه خفة وراحة فتاقت إلى الموضع الذي خلقت منه واشتاقت إلى عالمها العلوي، وإذا أشبعه ونعمه ونومه واشتغل بخدمة البدن وراحته أخلد البدن إلى الموضع الذي خلق منه، فانجذبت الروح معه فصارت في السجن، فلولا أنها ألفت السجن وتعودت عليه لاستغاثت من ألم مفارقتها وانقطاعها عن عالمها العلوي الذي خلقت منه كما يستغيث المعذب، وبالجملة فكلما خف البدن لطفت الروح وخفت وطلبت عالمها العلوي.
وهذا يحسه الإنسان في الصيام والاشتغال بالذكر فإنك إذا اشتغلت بذلك تجد خفة البدن وكأنك تشعر أحياناً أنك لو سقطت من مكان عالٍ تكون كالريشة من خفة شعورك بالخفة في بدنك.
يقول: وكلما ثقل وأخلد إلى الشهوات والراحة ثقلت الروح وهبطت من عالمها وصارت أرضية سفلية، فترى الرجل روحه في الرفيق الأعلى وبدنه عندك، يكون نائماً على فراشه وروحه عند سدرة المنتهى تجول حول العرش، وآخر واقف في الخدمة ببدنه وروحه في السفل تدور حول السفليات، فإذا فارقت الروح البدن التحقت برفيقها الأعلى أو الأدنى حسب الرفيق، فعند الرفيق الأعلى كل قرة عين وكل نعيم وسرور وبهجة ولذة وحياة طيبة، وعند الرفيق الأسفل كل هم وغم وضيق وحزن وحياة نكدة ومعيشة ضنك، يقول تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}[طه:١٢٤] فذكره: كلامه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، والإعراض عنه: ترك تدبره والعمل به، والمعيشة الضنك: أكثر ما جاء في التفسير أنها عذاب القبر.
قاله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهم وفيه حديث مرفوع، وأصل الضنك في اللغة: الضيق والشدة، وكل ما ضاق فهو ضنك، يقال: منزل ضنك وعيش ضنك، فهذه المعيشة الضنك في مقابلة التوسيع على النفس والبدن بالشهوات واللذات والراحة، فإن النفس كلما وسعت عليها ضيقت على القلب حتى تصير معيشة ضنكاً، وكلما ضيقت عليها -يعني: شهواتها- وسعت على القلب حتى ينشرح وينفسخ، فضنك المعيشة في الدنيا بموجب التقوى سعتها في البرزخ والآخرة، وسعة المعيشة في الدنيا بحكم الهوى ضنكها في البرزخ والآخرة، فآثر أحسن المعيشتين وأطيبهما وأدومهما وأشق البدن بنعيم الروح، ولا تشق الروح بنعيم البدن، فإن نعيم الروح وشقاءها أعظم وأدوم، ونعيم البدن وشقاؤه أقصر وأهون، والله المستعان.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.