لقد أشرنا من قبل إلى أن عالي الهمة لا يقنع بالدون، وأن همته وثابة تطمح إلى الأعلى، إذا حصل على شيء تاق إلى ما هو أعلى منه.
فلما كان كمال الإرادة بكمال المراد، فإن أكمل الناس إرادة هو من أراد الله عز وجل فوحده ولم يشرك به شيئاً؛ لأن الكافر قطعاً سافل الهمة، ولا يمكن أن يوصف الكافر بعلو الهمة؛ لأن أقصى ما عند الكافر أن يحقق مآربه الدنيوية، أو يجتهد في طلب الآخرة لكن يخطئ الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، كالذي يعبد المسيح عليه السلام؛ فهذا سافل الهمة؛ لأنه رضي أن يعبد عبداً من دون الله، أرسله الله سبحانه وتعالى إليهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إليه، فعبدوه من دون الله فوقعوا في الشرك والعياذ بالله، فبلا شك أن النصراني خسيس الهمة؛ لأنه قنع بعبادة عبد من العباد، كذلك من يعبد الأوثان خسيس الهمة، واليهودي خسيس الهمة وهكذا.
إذاً: كل من لم يدن بدين الإسلام فهو خسيس الهمة؛ لأنه رضي بالدون ولم يجتهد في الوصول إلى الحقيقة العليا التي هي دين الإسلام، فأكمل الناس إرادة لا بد أن يكون عنده هذا الأساس وهو التوحيد.
يقول: فأكمل الناس إرادة هو من أراد الله عز وجل وحده فوحده ولم يشرك به شيئاً، وسعى إلى مجاورة الرفيق الأعلى في دار كرامته التي رضيها الله لأوليائه، وتجافى عن دار الغرور التي جعلها للمؤمن سجناً وللكافر جنة.
قيل للعتابي: فلان بعيد الهمة، قال: إذاً لا يكون له غاية دون الجنة.
يعني: إذا كان فعلاً بعيد الهمة لا بد أن يكون هدفه الأسمى وشغله الشاغل هو أن يصل إلى الجنة.
قال الشاعر: قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل يعني: أنت ما خلقت للدنيا إنما خلقت للآخرة، فالدنيا دار غربة، أما الآخرة فهي وطن، ونحن الآن في حالة نفي عن الوطن؛ لأن الأصل أن أبانا آدم عليه السلام كان في الجنة فهي الوطن الأول، ولذلك يقول الشاعر: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل إذاً: فالوطن هو الجنة، ونحن كنا في الجنة في صلب أبينا آدم عليه السلام، ثم خرجنا من الجنة وأبعدنا من الجنة إلى هذه الدار التي هي دار غربة، فالمفروض أن تجتهد في أن تتحرر من أسر الدنيا التي أنت فيها هنا؛ كي تنطلق وتعود إلى الوطن كما يقول الشاعر: فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم فإذا كانت لذة كل أحد على حسب همته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفساً وأعلاهم همة وأرفعهم قدراً من لذتهم في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والتودد إليه بما يحبه ويرضاه، يقول تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:٥٨] فانظر كيف أمرنا بأن نفرح بالإيمان وبالقرآن، في حين نهينا عن الفرح بالدنيا والفرح بالزينة وبهذه الدناءات.