[علو همة أبي محمد بن حزم وترف البيئة التي نشأ فيها]
وفي الجهة الأخرى نجد الترف قد يكون دليل الإعاقة عن ذلك، ومع ذلك يترفع صاحب الهمة العالية على الحياة المترفة ورغد العيش، بل يسخر هذه الحياة لإنجاز المطالب الجسيمة، كحال الإمام أبي محمد علي بن حزم رحمه الله تعالى الذي نشأ نشأة مترفة، فالإمام ابن حزم الأندلسي الفارسي الأصل نشأ في الأندلس نشأة في غاية الترف، ولكنه انصرف عن مطامح الدنيا ومطامعها في سبيل طلب العلم.
ومما أذكر أن الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى لما وقعت المناظرة بينه وبين الإمام الجليل أبي الوليد الباجي المالكي شارح الموطأ ففي نهاية المناظرة قال له الإمام الباجي رحمه الله تعالى يعتذر له: إن كان حصل خلل أو تقصير مني في المناظرة فاعذرني؛ فإني كنت أطلب العلم على سرج الحراس.
أي: لم يكن هناك كهرباء، فكان الحارس -مثل الشرطي- يحرس الطرقات أو المدينة أو القرية بمشاعل من نيران، ويقف في نوبة الحراسة، وهذا رأيناه في كثير من العلماء الذين كانوا في شدة الفقر لا يجدون ما يسرجون به، فكان هو لا يستطيع أن ينام من شدة شوقه إلى طلب العلم، وما عنده شيء يستضيء به، فيخرج إلى الشارع أو إلى الطريق عند الحرس، ويسهر في طلب العلم على ضوء مشاعله، فقال له الإمام أبو الوليد الباجي رحمه الله تعالى: اعذرني؛ فإني كنت أطلب العلم على سرج الحراس.
فقال له الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: واعذرني أيضاً؛ فإني كنت أطلب العلم على منائر الذهب والفضة.
يعني أن الإمام أبا الوليد الباجي رحمه الله تعالى كان يرى أن الفقر الذي كان فيه معيق عن طلب العلم، وأنه طلب العلم بالمكابدة وبالسهر على مشاعل الحراس، فالإمام ابن حزم رد عليه وقال له: بل الترف هو الذي يعيق عن طلب العلم؛ لأن الإنسان المترف يكون متيسر الوسائل والمادة والمال وغير ذلك، وحينئذٍ يسهل عليه سبيل اللهو والخوض في زينة الدنيا، فيعيقه الترف عن العلم، وكأنه يرى أن الترف أشد في إعاقة طلب العلم من الفقر؛ ولذلك قال له: واعذرني؛ فإني كنت أطلب العلم على منائر الذهب والفضة.
يعني المنائر المصنوعة من الذهب والفضة.
وربما نشأ كبير الهمة في بيئة معدمة قاسية تكون كفيلة بإطفاء همته والقضاء على نبوغه، لكن الله سبحانه وتعالى ييسر له من الأسباب ما يأخذ بيده، أو يقيض له من ينمي مواهبه ويتكفل بأمره.