[نماذج من حرص السلف على هداية الخلق وعلو همتهم في ذلك]
أما صور ونماذج حركة السلف وحرصهم على هداية الخلق إلى الله سبحانه وتعالى فهي كثيرة نكتفي منها بهذه النماذج: فعن جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: لو استطعت أن لا أنام لم أنم، مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم، ولو وجدت أعواناً لفرقتهم ينادون في سائر الدنيا كلها: يا أيها الناس! النار النار: أي: لو وجدت أعواناً يطيعونني لنشرتهم في كل أقطار الأرض وكل شارع وكل مدينة وكل حي يصرفون في الناس يقولون: النار النار.
أي: احذروا النار، واتقوا النار، واعملوا للنجاة من النار.
وعن إبراهيم بن أشعث قال: كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي حتى لكأنه يودع أصحابه ذاهباً إلى الآخرة، حتى يبلغ المقابر، فيجلس فكأنه بين الموتى من الحزن والبكاء حتى يقوم، ولكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.
وعن الشجاع بن الوليد قال: كنت أخرج مع سفيان الثوري، فما يكاد لسانه يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهباً وراجعاً.
وهذا الإمام الزهري -والزهري لا نقول في تعريفه أكثر من أنه الإمام الزهري رحمه الله تعالى- لم يكتف بتربية أجيال وتخريج أئمة في فن الحديث، بل كان بجانب روايته في الحديث وفي العلم ينزل بنفسه إلى الأعراب يعلمهم، وكان يذهب إلى البوادي ليعلم الأعراب أمر دينهم.
وكان الفقيه الواعظ أحمد الغزالي شقيق أبي حامد الغزالي رحمهما الله يدخل القرى والضياع، ويعظ لأهل البوادي تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى.
فالإنسان يمكن أن يستحضر مثل هذه النية ويخرج في سبيل الله، كما جاء الحديث في فضل من يغدو من بيته في الصباح لأجل الله سبحانه وتعالى، فما يمنعك من أن تخرج من بيتك -مثلاً- بنية أنك تذهب لا لشراء الخبز والفاكهة والخضروات، ولا للذهاب إلى العمل أو الطبيب أو غير ذلك من مصالحك أو حاجاتك، وإنما بنية أن تهدي ضالاً إلى الله سبحانه وتعالى؟! ما الذي يمنعك من هذا؟! فهل لا يوجد ضالون في بلادنا أو في مدينتنا؟!
الجواب
بلى، بل هم كثيرون، فالشباب التائه الضائع الضال الآن يملأ المرافق والطرقات، فما الذي يمنعك من أن تخرج من البيت بهذه النية؟ افعل هذا، وتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذا، فهذا أعظم بكثير جداً من قيام الليل وصيام النهار، فإذا أخذت بناصية أحد إلى الله سبحانه وتعالى فإن كل ما سيعمله من الأعمال الصالحة بسبب دعوتك إياه سيكون في ميزانك أنت، وأي واحد منا لو رجع بذاكرته إلى الوراء لوجد أن الله سبحانه وتعالى إنما منّ عليه بنعمة الهداية على يد واحد من هؤلاء الذين كان عندهم هذه الهمة، حيث تحرك ليدعوك أنت إلى الحق، فكان منه هذا الخير الذي تعيش فيه الآن، فلماذا لا ترد الجميل إلى غيرك وتنال -أيضاً- ثوابه؟! وما الذي يمنع كل واحد منا الآن؟! فليحاول أحدنا أن لا يمر الأسبوع القادم -مثلاً- دون أن ينزل من البيت بنية أنه خارج ليبحث عن شاب ينصحه، سواء رآه واقفاً في الطريق أو في أي مكان، فيستوقفه وينصحه برفق، أو يهديه شريطاً أو كتاباً، أو يهديه نصيحة.
فإذا فعلنا هذا فإننا -بلا شك- نذوق طعم هذه العبادات إذا كان هذا خروجاً في سبيل الله بمعنى صحيح، أي: أن تخرج من بيتك بنية دعوة ضال، أو هداية فاسق، فالمقاهي عامرة بهؤلاء الفارغين، والنوادي مكتظة بالشباب التافه الضال الضائع، وقد يكون فيهم كثير من الشباب الذين فيهم خير، لكن لم تطرق أسماعهم بعد كلمة أو موعظة، فلماذا لا تكون أنت الذي يجري على يدك هذا الخير؟! وهذا الإمام أبو إسحاق الفزاري رحمه الله تعالى كان رجل عامة، وهو الذي أدب أهل الثغور الإسلامية الذين في أعالي بلاد الشام والجزيرة تجاه الروم، وعلمهم سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يأمر وينهى، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه، أي أن المدينة التي كان يمكث فيها إذا دخلها رجل مبتدع طرده من البلد، ولا يسمح لمبتدع أن يعيش معه ببلدة واحدة.
وأما الشيخ الزاهد الفقيه محمد بن أحمد الدباهي فقد لازم العبادة والعمل الدائب والجد، واستغرق أوقاته في الخير صلباً في الدين، ينصح الإخوان، وإذا رآه إنسان عرف الجد في وجهه.
وعلى الفتى لطباعه سمة تلوح على جبينه أما الإمام الجليل الخرقي صاحب كتاب المختصر في مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى فقد قال الإمام ابن قدامة في أثناء ترجمته في مقدمة المغني: وسمعت من يذكر أن سبب موته -أي: سبب موت هذا الإمام الفقيه الجليل الإمام أبي القاسم الخرقي رحمه الله تعالى- أنه أنكر منكراً بدمشق، فضرب، فكان موته بذلك.
وكان من ضمن سيرته أنه لما ظهر سب الصحابة في مدينة بغداد تركها، وقال: لا أعيش في بلد يسب فيها الصحابة.
ومن مناهج حرصهم -أيضاً- على تعليم الناس العلم الشريف ما رواه جعفر بن بطال قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز وقال في كتابه: ومر أهل الفقه من جندك فلينشروا ما علمهم الله في مساجدهم ومجالسهم، والسلام.
وهذا أحد أسرار الحركة التجديدية التي قادها عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.
وعن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: إن أوسط عملي في نفسي نشري العلم.
أي أن أفضل عمل أرجو أو أطمع أن يثيبني الله سبحانه وتعالى عليه هو أن أنشر العلم.
وعطاء بن أبي رباح مفتي مكة هو القائل: لأن أرى في بيتي شيطاناً خير من أن أرى فيه وسادة.
أي: لأنها تدعو إلى النوم.
فيا حسرتاه على أحوالنا وأوضاعنا! ونحن لا نقول: لنصل إلى هذا المستوى، أي: كون الإنسان يفضل أن يرى في بيته شيطاناً على أن يرى فيه وسادة، وإنما نقول: ساعة لربك وساعة لنفسك.
مع أن جل همنا متجه إلى تعمير الدنيا والانشغال للفناء في حب الدنيا، فليس لنا هم إلا الدنيا، فانظر إلى عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى يقول: لأن أرى في بيتي شيطاناً خير من أن أرى فيه وسادة.
أي: لأنها تدعو إلى النوم.
وقال الإمام ربيعة الرأي رحمه الله تعالى: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه.
وقد اختلف العلماء في معنى هذه العبارة، فبعضهم قال: يعني: لا ينبغي أن يعرض نفسه لموضع لا يليق به، كموضع فيه إهانة أو احتقار لقدره.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ومراده أن من كان فيه فهم وتربية للعلم لا ينبغي له أن يهمل نفسه فيترك الاشتغال بطلب العلم.
أي أن الذي يحس من نفسه إمكان أن يتفوق في طلب العلم وأن يصير إماماً ففي هذه الحالة لا ينبغي له أن يضيع نفسه ويشتغل ويوجه الهمة وهذه الطاقة إلى الدنيا، فلا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه، فيترك الاشتغال بطلب العلم، وإنما يركز على طلب العلم؛ لئلا يؤدي ذلك إلى رفع العلم.
أو مراده: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم -يعني: حصل قدراً من العلم- أن يضيع نفسه.
أي أن المراد الحث على نشر العلم في أهله؛ لئلا يموت العالم قبل ذلك فيؤدي إلى رفع العلم، فينشر العلم في الناس أو فيمن حوله في أهله؛ لأنه إذا مات قبل أن ينشره فقد ضيع نفسه، ويرفع العلم بذلك.
أو مراده: أن يضيع نفسه بأن يكون خاملاً غير ظاهر للناس؛ لأنه إذا لم يشهر نفسه ويتصدى لتعليم الناس فإن علمه سيضيع، فيضيع ما عنده من العلم، ولا ينتفع به أحد.
ووصى ابن القاسم عيسى بن دينار فقال له: عليك بأعظم مدائن الأندلس فانزلها، ولا تنزل منزلاً يضيع ما حملت من العلم.
أي: اجعل المدينة أو المكان الذي تعيش فيه مكاناً واسعاً تنشر فيه دعوتك وعلمك، وكن بؤرة نور وهداية للناس، ولا تأوي إلى مكان يضيع فيه ما عندك من العلم.