[كبير الهمة عصامي لا عظامي]
من خصائص عالي الهمة كونه عصامياً لا عظامياً.
والعصامي: هو من ساد بشرف نفسه، وهو الذي يبني مجده بنفسه، وفي مقابله العظامي، وهو من ساد بشرف آبائه، فهو يفخر بآبائه الذين صاروا عظاماً، فلذلك ينسب إليهم ويقال له: عظامي.
أما العصامي فهو الذي يسود بنفسه، نسبة إلى عصام بن شهبر حاجب النعمان بن المنذر الذي قال له النابغة الذبياني حين حرمه من عيادة النعمان في قصيدة له: فإني لا ألومك في دخولي ولكن ما وراءك يا عصام وعصام هذا هو الذي قال فيه النابغة: نفس عصام سودت عصاماً وعلمته الكر والإقداما فصيرته ملكاً هماماً أي: بعد ما كان عبداً صار ملكاً بجهده وكفاحه وجده.
ولذلك صار الشخص الذي يسود بشرفه وبجهده يسمي عصامياً، نسبة إلى عصام.
فقوله: (نفس عصام سودت عصاماً) أي: صارت نفسه مثلاً يضرب في نباهة الرجل من غير إرث قديم، والعصامي تسميه العرب اسماً آخر، حيث تسميه الخارجي، وهو الذي خرج بنفسه من غير أولية كانت له، أي: لم يسبقه أحد من آبائه وأجداده ومن سبقوه من قبيلته إلى هذه النباهة وهذا الذكر وهذا المجد، فخرج من قومه فذاً منفرداً لم يسبق وليس له أولية، فيسمى خارجياً، ولذلك يقول كثير: أبا مروان لست بخارجي وليس قديم مجدك بانتحال فكبير الهمة عصامي يبني مجده بشرف نفسه، لا اتكالاً على حسبه ونسبه، ولا يضيره أن لا يكون ذا نسب، فحسبه همته شرفاً ونسباً.
قال عامر بن طفيل العامري: وإني وإن كنت ابن سيد عامر وفارسها المشهور في كل موكب فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بجد ولا أب ولكنني أحمي حماها وأتقي أذاها وأرمي من رماها بمنكبي فهو يعتز بأنه شرف بنفسه مع أن آباءه وأجداده عظام، لكنه لم يتكل على نسبه، وإنما شرف بنفسه وبذاته، فله قيمته وتأثيره.
وقال الأبيوردي مبيناً أنه لم يقنع بنسب آبائه وأجداده، وإنما جمع إلى مجدهم الموروث مجداً اكتسبه بعلو همته: فشيدت مجداً رسا أصله أمت إليه بأم وأب فجمع إلى المجد السابق مجداً أثبته بنفسه.
ويقول المتنبي: ولست أبالي بعد إدراك العلى أكان تراثاً ما تناولت أم كسبا ويقول معن بن أوس: ورثنا المجد عن آباء صدق أسأنا في ديارهم الصنيعا إذا المجد القديم توارثته بناة السوء أوشك أن يضيعا ولا يعني ذلك أن الإنسان إذا كان ذا نسب شريف أنه لا قيمة له، بل الأمر بالعكس، فإذا جمع الإنسان إلى النسب الشريف العمل الصالح فنعما هو، وآية ذلك أن من أعظم مناقب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى كونه قرشياً، ومن وجوه تفضيل المذهب الشافعي على غيره أنه ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بأس إذا اجتمع الدين مع الحسب، وهذه أكمل الحالات، كما افتخر الأبيوردي في قوله: فشيدت مجداً رسا أصله أمت إليه بأم وأب فأكمل ما يكون أن ينضم المجد المكتسب إلى المجد الموروث، وأن تنظم العصامية إلى العظامية.
وقد وقف عند الحجاج رجل كانت له إليه حاجة، فقال في نفسه: لأختبرنه؛ فإن الناس يصفونه بأنه جاهل.
فقال له أول ما دخل عليه: أعصامي أنت أم عظامي؟ ويقصد الحجاج: أشرفت بنفسك أم تفتخر بآبائك الذين صاروا عظاماً؟ فقال الرجل: أنا عصامي وعظامي.
فقال الحجاج: هذا أفضل الناس.
وقضى حاجته وزاده، ومكث عنده، وبعد أن عرفه عن قرب وجده أجهل الناس، فقال له: تصدقني وإلا قتلتك.
قال له: قل ما بدا لك وأصدقك.
قال: كيف أجبتني بما أجبت لما سألتك: أعصامي أنت أم عظامي؟ فإنه أتى بجواب في غاية البلاغة والفصاحة حيث قال: أنا عصامي وعظامي.
فقال له الرجل: والله لم أعلم أعصامي خير أم عظامي، فخشيت أن أقول أحدهما فأخطئ، فقلت: أقول كليهما، فإن ضرني أحدهما نفعني الآخر.
والحجاج ظن أنه يقول: أنا أفتخر بفضلي وبآبائي لشرفهم، فقال الحجاج عند ذلك عبارة صارت مثلاً يضرب: المقادير تجعل العيي خطيباً.
وقال عبد الله بن معاوية في هذا المعنى: لسنا وإن كرمت أوائلنا يوماً على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثل ما فعلوا فكبير الهمة لا يضيره أن لا يكون ذا نسب، بل لا يضيره أن يكون ذا نسب وضيع، وهذه من أعظم محاسن الإسلام، وإذا فتشت في أكابر علماء المسلمين تجدهم من العبيد والموالي والأعاجم، فأغلب الأئمة والمحدثين والمشاهير هم من الأعاجم الذين لم يكونوا عرباً.
فلا يضير كبير الهمة أن لا يمت بآصرة اللحم والدم إلى قوم كرام، فإنه بعلو همته سوف ينتسب إلى الكرام، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: كل كرم دونه لؤم فاللؤم به أولى، وكل لؤم دونه كرم فالكرم به أولى.
ومعنى هذا أن أولى الأمور بالإنسان خصال نفسه، فإن كان كريماً وآباؤه لئاماً لم يضره ذلك، وإن كان لئيماً وآباؤه كراماً لم ينفعه ذلك.
يقول الشاعر: واه لحر واسع قدره وهمه ما سر أهل الصلاح سوده إصلاحه سره وردعه أهواءه والطماح ويقصد بالطماح الارتفاع والتطلع للمعالي.
وتكلم رجل عند عبد الملك بن مروان بكلام ذهب فيه كل مذهب، فأعجب عبد الملك ما سمع من كلامه، فقال له: ابن من أنت؟ فقال: أنا ابن نفسي يا أمير المؤمنين التي بها توصلت إليك.
قال: صدقت.
فأخذ الشاعر بهذا المعنى فقال: مالي عقلي وهمتي حسبي ما أنا مولى ولا أنا عربي إذا انتمى منتم إلى أحد فإنني منتم إلى أدبي وكبير الهمة ليس عظامياً يفتخر بالآباء والأجداد الذين صاروا عظاماً ورفاتاً، وإنما يفخر بنفسه.
يقول آخر: كن ابن من شئت واكتسب أدباً يغنيك محموده عن النسب إن الفتى من يقول ها أنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي ويقول المتنبي: لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي.
ويقول آخر: كم سيد بطل آباؤه نجب كانوا رءوساً فأمسى بعدهم ذنبا ومقرف خامل الآباء ذي أدب نال المعالي والآداب والرتبا والمتنبي من أعظم الشخصيات في التاريخ الإسلامي همة، وهو القائل: وآنف من أخي لأبي وأمي إذا ما لم أجده من الكرام ولست بقانع من كل فضل بأن أعزى إلى جد همام يعني: لا يكفيني أن أنتمي في باب المكارم إلى جد همام، ولكن أبني هذا المجد بنفسي.