[أهمية النضوج الاجتماعي في تنشئة علو الهمة]
والأمر المهم الذي يهمنا ضمن هذه الخصائص هو عامل النضوج الاجتماعي، والنشأة في ظروف اجتماعية طيبة؛ لأننا إذا تصفحنا صفحات التاريخ سنجد أن كثيراً من الناس رزقوا الكثير من هذه المواهب، ولكن البيئة من حولهم إما أنها لم تكتشفهم، وإما أنها وجهتهم توجيهاً بعيداً عن مواهبهم، وإما أنها حطمتهم، فكانت هذه البيئة أباً أو أماً جاهلة، أو أن الواحد من هؤلاء نشأ في ظروف اجتماعية كالفقر، أو ظروف ضاغطة، أو مع صديق هابط الهمة، أو غير ذلك، ففي نفس الوقت حينما نريد أن نسلط الضوء على هذا الموضوع لا يمكن أن نجد واحداً من أعلام التاريخ الإسلامي إلا وهو عالي الهمة، فأعلام التاريخ من العلماء والمصلحين لو لم يكونوا كبيري الهمة ما كانوا أبداً ليجدوا مكاناً في صفوف عظماء الإسلام.
فعلو الهمة هو قاسم مشترك بين كل من يترك بصمة في تاريخ هذه الأمة فيما يتعلق بتأثير البيئة المحيطة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:٧٨]، فالإنسان لا يولد عالماً، وإنما الإنسان بجانب المواهب التي يهبه الله سبحانه وتعالى إياها لابد من أن تربيه وتوجهه البيئة المحيطة به، والجماعة التي تتولى رعايته وتتعهده، حتى يمتلك ناصية العلم الذي يطلبه، فلا شك أن الأمة التي تهتم بالنابغين تصنع بهم مستقبلها المشرق؛ لأنهم هم الذين يقدرون على إصلاح أمرها، ويسهمون في ازدهارها، والأمة التي تهمل رعاية نابغيها أو توجههم بعيداً عن الدين وبعيداً عن الإسلام سوف تشقى، وذلك حين يتولى أمورها جهلة قاصرون يوردونها المهالك، أو مرضى نفسيون معقدون يسومونها سوء العذاب، أو فشلة أصحاب نفوس دنيئة وهمم خسيسة يبيعونها لأعدائها بثمن بخس، فكل هذا حصاد إهمال أن يلي الأمر أو أن يوكل الأمر إلى غير أهله، فيوفر لأمثال هؤلاء، ثم يسومون الناس سوء العذاب.
ومع كون المواهب استعدادات فطرية يولد هذا النابغة أو هذا المتفوق أو كبير الهمة، فهو في الأصل عنده استعدادات، لكن لابد مع الاستعداد من البيئة، وهناك نماذج كثيرة في الحقيقة في هذا، من ذلك طفل كان يدعى سيد جلال الأفغاني، التحق بجامعة البترول في الظهران وعمره عشر سنوات في العام الجامعي ١٩٨٠ - ١٩٨١م، حيث دخل الجامعة وعمره عشر سنوات، وكان قد حصل على الثانوية العامة وعمره ثماني سنوات، وتعلم الأردية والإنجليزية والروسية وعمره تسع سنوات، فهذا واضح جداً أن فيه مواهب ميزه الله سبحانه وتعالى بها.
فأقول: هذه مسئولية المدرسين والمربيين والموجهين، فعليهم أن يبحثوا عن هذه الشخصيات ويتولوها بالرعاية، فمن كان موسراً فلينفق على مثل هذا ويساعده، وإن كان عالماً لا يملك إلا النصيحة فلينصحه، وكل يبذل أي وسيلة من وسائل التشجيع، فإن العلماء كانوا ينقبون عن هؤلاء النابغين من كبيري الهمة؛ حتى يوفر الوقت ويختصر الطريق لإصلاح الأمة، فمع كون هؤلاء أصحاب استعدادات فطرية، لكنها لا تؤدي إلى النبوغ إلا إذا توافرت لأصحابها الظروف البيئية المناسبة والتربة الصالحة اللازمة لتنميتها وصقلها.
وتعد الأسرة -خاصة الوالدين- أو من يقوم مقامهما أهم عناصر البيئة تأثيراً في إظهار النبوغ، فأخطر مؤسسة تربوية على الإطلاق هي الأسرة، والوالدان خاصة.
فالبيئة إذا اهتمت بالكشف المبكر عن النبوغ، وإذا اكتشفت أن فيها ولداً نابغاً فلا شك في أن أبناءها إذا كانوا على وعي سيهتمون جداً بزراعة أو بذر بذور الهمة العالية في قلوب هؤلاء الأطفال منذ نعومة أظفارهم، وهذا هو السر الذي يفسر لنا سر اتصال سلسلة النابغين من كبيري الهمة من أبناء أسر معينة في التاريخ الإسلامي، حيث نجد أسراً معينة وجد أن فيها علماء كثيرين؛ لأن البيئة تكون بيئة على قدر كبير من العلم والوعي والحماس لرسالة الدين وخدمة الإسلام، فمن أجل ذلك كان أحدهم منذ صغر الولد -وربما قبل أن يولد الولد- كان يدعو الله أن يرزقه أو يخرج من صلبه من يجدد الدين، أو من يكون إماماً من أئمة الهدى، فكان الاهتمام موجوداً قبل أن يولد الطفل، بل إن الاهتمام بالأطفال يبدأ قبل الزواج، بأن يتحرى المرأة الصالحة ذات الدين، وقد وجدنا هذا في عدة أسر، كآل تيمية، وآل السيوطي، وآل الألوسي، وغير ذلك من الأسر التي ظهر منها كثير من العلماء؛ لأنها جمعت عدة استعدادات فطرية، ولا شك أن هذه يدخل فيه عنصر الوراثة، فيدخل عنصر الاستعدادات الفطرية الموروثة، وكذلك تدخل القدرات الإبداعية مع البيئة المساعدة، والبيئة أهميتها أنها تكتشف مبكراً هذه المواهب، ثم إنها تنميها، ثم توجهها إلى الطريق الأمثل.
وللأسف الشديد -وهذا مما يبكى عليه بدم العين، وليس بالدموع- أنَّه الآن يكاد يكون معظم المسلمين -حتى في البيئات المتدينة- إذا وجد فيهم الولد النابه كان جل اهتمامهم وتركيزهم على أن يخرج طبيباً، أو يخرج وزيراً، أو نحو ذلك من مناصب أو أغراض الدنيا، ولا نكاد نسمع عن أحد -إلا ما ندر- أن يوجه ابنه من أجل التخصص في علوم الدين، والتوجه إلى مقام الاجتهاد في الدين حتى يسد هذه الثغرة.
فالناس الآن كلهم انصرفت همتهم إلى طلب الدنيا، وإلى المناصب البراقة، وإلى المال، وإلى غير ذلك من المظاهر، لكننا لا نكاد نجد أحداً يكون هدفه أن يكون ابنه إماماً من أئمة المسلمين، أو أن يوجهه إلى طلب العلم الشريف، إلا ما ندر، والله تعالى أعلم.