[المداومة والمثابرة في كل الظروف سبب من أسباب الارتقاء بالهمة]
إن أسباب الارتقاء بالهمة ليست محصورة، لكن نقف عند هذا السبب الأخير، وهو: المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:٢٠٠]، وقال أيضاً: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:٧٨]، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:٦٩]، فكبير الهمة لا يستسلم للأمر الواقع، بل يبادر ويبادر في أقصى الظروف؛ لأنه يرى أن شرع الله هو الأمر الواقع، أما الباطل الذي صار أمراً واقعاً في زعم الناس فما أسهل أن يتحول ويتنحى جانباً ليترك السبيل للأمر الواقع الحق الذي هو شرع الله سبحانه وتعالى، فعالي الهمة لا يعترف بشيء اسمه الأمر الواقع، ولو أن علماء السلف قالوا: الأمر الواقع لما حصل تجديد للدين، ولا تشغيل لشبابه وبعث للأمة أبداً، فالأمر الواقع إنما يميل إليه سفلة الناس الذين انحطت هممهم وسفلت نفوسهم، فعالي الهمة لا يلتفت إلى الأمر الواقع، بل يبادر ويبادئ في أقصى الظروف حماية لهمته أن تهمد، ووقاية لها من أن تضمر، واستثماراً لأول فرصة متاحة.
ليس في كل حال وأوان تتهيأ صنائع الإحسان فإذا أمكنت فبادر إليها حذراً من تعذر الإمكان سبق أن ذكرنا من قبل مثالاً لعالي الهمة: أن عالي الهمة مثل الذي يحمل شعلة من النار، فحتى لو دفع بها إلى أسفل فإنها تأبى إلا صعوداً وارتفاعاً، فعالي الهمة حتى لو قيد أو كبل فهذا لا يؤثر في همته، بل إنه تحت أقسى الظروف يثابر ويداوم.
قال الشاعر: ومن أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها وقال آخر: إذا هبت رياحك فاغتنمها فعقبى كل خافقة سكون ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الأسوة، فإنه لما خرج مهاجراً إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لقي في طريق الهجرة بريدة بن الحصيب الأسلمي في ركب من قومه فيما بين مكة والمدينة، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا، فلم تشغله مطاردة قريش عن واجب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
وهذا يوسف الصديق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يبادر إلى استثمار الفرصة فيغتنم سؤال السجينين عن رؤياهما ليبث إليهما دعوة التوحيد من وراء الأسوار، كما قال عز وجل حاكياً عنه: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:٣٩] إلى آخر الآيات.
وقد أملى شمس الأئمة الإمام السرخسي رحمه الله تعالى الإمام الحنفي الشهير كتابه المبسوط الذي يقع في نحو خمسة عشر مجلداً وهو في السجن في (أوزجم)، وكان محبوساً في الجب بسبب كلمة ناصح بها الخاقان فحبسه في الجب، وهذه طريقة غريبة في الحبس، فكان محبوساً في قاع الجب، وكان يأتيه تلامذته يجلسون على قصف البئر -السور الذي يكون أعلى البئر- وهو يملي عليهم من ذاكرته من قاع ذلك البئر.
يعني: كان يملي من خاطره من غير مطالعة كتاب وهو في الجب وأصحابه في أعلى الجب، وقال عند فراغه من شرح العبادات -ومن يراجع كتاب المبسوط سيجد هذه العبارات مكتوبة في آخر جزء العبادات-: هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات، إملاء المحبوس عن الجمع والجماعات، وقال في آخر شرح الإقرار: انتهى شرح الإقرار المشتمل من المعاني على ما هو من الأسرار، إملاء المحبوس في محبس الأشرار.
وله كتاب في أصول الفقه، وشرح السير الكبير أملاه وهو في الجب، ولما وصل إلى باب الشروط حصل له الفرج فأطلق، فخرج في آخر عمره إلى (فرغانة)، فأنزله الأمير حسن بمنزله فوصل إليه الطلبة فأكمل الإملاء.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لما تآمر عليه أعداؤه حتى حالوا بينه وبين الأوراق والكتابة حتى لا تخرج فتاواه وعلمه من خارج السجن كما حصل، وشوا به إلى السلطان حتى منعه من الأوراق والأقلام، وأخرج كل ما عنده من الكتب والأقلام والأوراق، فظل يكتب فتاواه ورسائله بالفحم على جدار السجن، فرحمه الله تعالى.