[الحركة في حياة الداعية إلى الله عز وجل]
إن الداعية من أخص ما يختص به أنه يمكن أن يكون داعية ولا يكون على درجة عالية من العلم، فالداعية إنسان يغار على الدين، خاصة في مثل هذا الزمان الذي أصبحت الأمور الأساسية التي هي معلومة من الدين بالضرورة يجهلها الناس، والمعاصي التي ترتكب هي في الغالب مخالفات صريحة للدين، وليست أموراً خفية، ولا يجهلها أحد، وحينئذٍ من علم هذه الحدود من حدود الله فواجب عليه أن ينصح ويعظ الناس، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
فالداعية من أخص خصائصه أنه متحرك الحركة المنافية للخمول والسكون، فالحركة ولود، والسكون عقيم، والحركة هي الحياة، والسكون هو الموت.
يقول الجيلاني: الحركة بداية، والسكون نهاية.
فالأشياء لا تسكن إلا إذا وصلت إلى نهايتها وخمدت وماتت، لكن الحركة تكون بداية لما بعدها، فهي تلد ما بعدها، والحركة هي الحد الفاصل بين عهد الرقابة وبين عهد حمل الأمانة بعزم وحزم ووفاء، فبالحركة انتشر المسلمون الأوائل مثل شعاع الشمس في أقطار الأرض يفتحون البلاد، ويفتحون قلوب العباد، ويدعون إلى التوحيد، ويحطمون الطواغيت، ويقودون الناس إلى الجنة، وبالحركة صاروا في ظلمات الحياة سراجاً وهاجاً، فإذا بالباطل قد صار رماداً بعد التهاب وخامداً بعد حركة.
يقول الشاعر معبراً عن أن الحركة هي الشيء الأصل فيمن يحقق معنى كلمة التوحيد؛ إذ التوحيد عبارة عن نفي وإثبات، وإيجاب وسلب، فـ (لا إله) نفي وسلب و (إلا الله) إيجاب وإثبات، أي أنه لا يستحق أن يفرد بالعبادة إلا الله سبحانه وتعالى، فهو يريد أن يعبر عن أنه لا يمكن أن أحداً يقول: (لا إله إلا الله)، ويفهمها حق فهمها إلا فعلت فيه هذه الكلمة فعل الكهرباء في الآلة حين تحركها وترفعها وتعطيها الطاقة، يقول هذا الشاعر: إنما التوحيد إيجاب وسلب يعني: لا إله إلا الله.
لا وإلا قوة قاهرة ولها في النفس فعل الكهرباء يعني: كما أن الكهرباء تأتي من الموجب والسالب، فالموجب والسالب هما اللذان يولدان الطاقة الكهربائية، فتحرك الآلة، فكذلك كلمة التوحيد عبارة عن موجب وسالب، وهما (لا)، و (إلا)، فـ (لا) السالب، و (إلا) هي الإثبات الموجب، فهما اللذان يحركان القلب حينما يجتمعان فيه، ويخرجان هذه الطاقة.
وهذا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يصور عشقه الحركة وبعده عن الجمود والكسل، فيمثل السكون بالماء الذي يتوقف عن الجريان فيفسد؛ لأن الماء إذا توقف عن الجري فسد، ولذلك نهى الرسول الله صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد، أما الذي يجري فإنه يتجدد.
ويجزم الإمام الشافعي بأن الأسد قد تتعرض للهلاك لولم تتحرك باحثة عن فريستها، وكذلك السهام لولا تحركها من الكنانة إلى القسي ومن القسي إلى الهدف لما أصابت.
يقول الشافعي رحمه الله تعالى: إني رأيت وقوف الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب والأسد لولا فراق الأرض ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يُصب والشمس لو وقفت في الفلك دائمة لملها الناس من عجم ومن عرب وهذا الشاعر الإسلامي وليد الأعظمي يهيب بالداعية أن يتحرك ويحرك الآخرين مبتدأً بعشيرته الأقربين فيقول: كن مشعلاً في جنح ليل حالك يهدي الأنام إلى الهدى ويبيِّنُ وانشط لدينك لا تكن متكاسلاً واعمل على تحريك ما هو ساكنُ وابدأ بأهلك إن دعوت فإنهم أولى الورى بالنصح منك وأقمنُ والله يأمر بالعشيرة أولاً والأمر من بعد العشيرة هينُ وهذا القرضاوي يجادل الخاملين ويحاج الخامدين، ويوبخ الهامدين فيقول: قالوا السعادة في السكون وفي الخمول وفي الخمود في العيش بين الأهل لا عيش المهاجر والطريد في المشي خلف الركب في دعة وفي خطو وئيد في أن تكون كما يقال فلا اعتراض ولا ردود في أن تسير مع القطيع وأن تقاد ولا تقود في أن تصيح لكل وال عاش عهدكم المجيد قلت الحياة هي التحرك لا السكون ولا الهمود وهي الجهاد وهل يجا هد من تعلق بالقعود وهي التلذذ بالمتاعب لا التلذذ بالرقود هي أن تذود عن الحيا ض وأي حر لا يذود هي أن تحس بأن كأ س الذل من ماء صديد هي أن تعيش خليفة في الـ أرض شأنك أن تسود وتقول لا ونعم إذا ما شئت في بصر حديد هذه الحركة التي نتكلم عنها هي في الحقيقة عبارة عن عملية قيامة وبعث لروح الإنسان ولنفس الإنسان، فكما أن القيامة والبعث والنشور فيها إحياء للموات وبعث للحياة والحركة من جديد فكذلك حركة الداعية هي عبارة عن قيامة وبعث في الروح.
وهذا المصطلح ليس من كيسنا، وإنما هو من القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمة، ونبأه بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:١ - ٢]، وأرسله بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:١ - ٢]، فهذه الآية هي التي انتقل بها النبي صلى الله عليه وسلم من النبوة إلى الرسالة، وهي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:١ - ٢]، وتأمل كلمة ((قُمْ)) فإنها تفيد القيام والحركة.
ونفس هذا المعنى موجود في مثل قوله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:٤٦]، ففي هذه الآية إشارة -أيضاً- إلى هذا القيامة، ونفس المعنى ذكره الله عز وجل في شأن أصحاب الكهف، فقال سبحانه: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:١٤] فهي حركة.
هذه القيامة الروحية واليقظة القلبية من أول منازل الطريق تستدعي الحركة في سبيل الدعوة، فليست هي أول منازل طريق التوبة؛ لأن الإنسان لا يتوب إلا بعدما يفيق ويستيقظ قلبه أولاً، فهو يستيقظ من النوم، ثم بعد ذلك يفكر في التوبة.
فالقيامة دائماً هي التي تسبق التوبة، يقول تبارك وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:١٠٨] يعني: ومن اتبعني أيضاً يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، قال الكلبي: حق على كل من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه الخاصية من خصائص الدعوة الإسلامية هي التي حيرت أعداء الإسلام في القديم وفي الحديث؛ لأن كل مسلم مهتم بالإسلام، كما قالها من قبل آرنولد تويمبي وغيره من المستشرقين وأعداء الإسلام، أبدوا الذهول من أن كل مسلم يعتبر نفسه مسئولاً عن الإسلام، وأينما ذهب يعتبر نفسه سفيراً للإسلام، وهو متحدث باسم الإسلام، وحريص على أن يبادر الناس بدعوتهم إلى الإسلام في كل مكان، فكان هذا التفسير تفسيراً مقبولاً لدخول أمم بكاملها في الإسلام بدون سيف، فكثير من بلاد العالم الإسلامي -بل أكبر بلاد العالم الإسلامي، وهي إندونيسيا وكل المنطقة التي في شرق آسيا من بعد الهند والفلبين، وكل هذه المناطق التي فيها ملايين المسلمين- ما أريقت فيها قطرة واحدة في الجهاد في سبيل الله، وما فتحت بسيوف أبداً، وإنما فتحت بالتجار المسلمين الذين كانوا يذهبون إلى تلك البلاد، كما قال بعضهم: كان الداعية يذهب في زي تاجر، أي أنه داعية متقمص ثياب التجار، فكان بمجرد وجود التاجر المسلم بأخلاقه وآدابه وسمته وتعظيمه للصلاة وصدقه وقيامه بسائر الأخلاق في وسط هذه المجتمعات، كان الناس ينقادون إليه انقياداً كاملاً، ويتبعون دينه، فيدعوهم بلحظه قبل لفظه، وبسلوكه وخلقه قبل أن يتكلم.
فالشاهد أن هذه الخطوة هي التي ما زالت تحير أعداء الإسلام إلى اليوم، فمهما اجتهدوا في حربه فهذه الخاصية هي السبب الحقيقي في صمود الإسلام؛ لأنه لا توجد هيئة رسمية في أي دولة إسلامية يمكن أن نقول عنها: هي التي تحرك الدعوة الإسلامية في العالم.
بل العكس، فأغلب الهيئات الرسمية إما أن تريد أن تسخر الإسلام لمصالحها السياسية، وتجعله قابلاً لها، وإما أنها منحرفة بدعوتها إلى الإسلام، وهي جادة فعلاً في الدعوة، مثل الشيعة في إيران، فهم من أشد الناس حركة في الدعوة إلى باطلهم في كل العالم، ويضحون بالنفس والنفيس، ومع ذلك هم على باطل وعلى دين مخالف لدين الإسلام كما نعلم.
فهذه الهيئات إما أن أصحابها مبتدعون ضالون، وإما أنها تعادي الإسلام صراحة وتريد أن تجفف منابعه، وأما أنها هيئات رسمية تتظاهر بخدمة الإسلام لكي تسخره خادماً لمآربها ولمقاصدها، فما الذي يقوم بالدور الفعلي للدعوة إلى الإسلام في كل أرجاء الأرض؟! هي جهود هؤلاء الدعاة الذين لا أقول عنهم: هم أسماء مشهورة وشخصيات معينة.
بل كل مسلم يتحرك، حتى إننا نجد أحياناً الشخص قد يكون فاسقاً ومقصراً في دينه، ومع ذلك تجده يفرح جداً إذا رأى كافراً يدخل في الإسلام، ويضحي من أجل ذلك بما يستطيع، فمثلاً: لو أن رجلاً نصرانياً أسلم فإن أشد الناس حماساً في مساعدته هم عوام الناس، وهذا فيه تعبير عن هذه الإيجابية والرغبة في انتشار الإسلام وهدي قلوب الخلق والابتهاج بنشر هذا الدين.