[دور التسويف والتمني في انحطاط الهمة]
التسويف والتمني هما صفة بليد الحس عديم المبالاة، الذي كلما همت نفسه بخير إما أنه يعيقها بكلمة (سوف) حتى يفجأه الموت، وأكثر ما يصيح أهل النار من كلمة (سوف)، يقولون: واحزناه من سوف! فإذا أكثر الإنسان من قوله: سوف أصوم، وسوف أصلي، وسوف أتوب، وسوف أفعل كذا فلن ينجز شيئاً.
فإذا همت نفسه بخير يقول: سوف أفعل فيما بعد، ويؤجل، فإذا حضره الموت قال: {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:١٠ - ١١].
ألم تعط الفرصة؟ كما قال عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:٣٧] يعني: ألم نمد في أعماركم فترة كافية، فمن أراد أن يتوب فقد كانت عنده فرصة يتوب فيها.
وقوله: (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) قيل في تفسيرها أشياء كثيرة، لكن من ضمنها: أن النذير هو الشيب في الرأس، يعني: أن هذا الشيب إنذار بقرب الموت، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أعذر الله إلى رجل أخره حتى بلغ ستين سنة)، يعني: إذا وصل ستين سنة ومع ذلك ما تاب ولا أناب بل تمادى في المعاصي والمخالفات فبعد ستين سنة ماذا ينتظر؟! هذا فيما يتعلق بمن يقول: سوف، وهناك من لا يقول: سوف، ولكنه يركب بحر التمني، وأحلام اليقظة، والإنسان إذا كان يعيش في حلم فإن هذا الحلم يكون حلماً لذيذاً، ويود ألا يستيقظ عند وقت الصلاة أو عند أي شيء؛ حتى لا يفسد عليه أحد هذه اللعبة وهذا الحلم الزائف، وهي وهمية عبارة عن أحلام في أحلام، كما قال الشاعر: أحلام نوم أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع لكن هذا يريد أن يستمر دائماً في الأحلام؛ حتى يتمتع بها، فيحلم أنه يطير، وأنه يأكل أو يشرب أو كذا أو كذا مما يعوقه ويسره من هذه الأحلام.
فالإنسان إما أن يسوف ويقول: سوف أصوم سوف أتوب سوف أصلي سوف أفعل، والعمر يمضي ويجري، وإما أن يركب بحر التمني، والتمني يطلق على ما لا يكون وما لا يقع، وهو بحر لا ساحل له، فيبقى الحالم في هذا البحر إلى ما لا نهاية، ويدمن ركوبه مفاليس العالم، كما قيل: إذا تمنيت بت الليل مغتبطاً إن المنى رأس أموال المفاليس فالمفلس رأس ماله التمني؛ ويظل يحلم بأنه سيفعل كذا ولو أنه كذا! كما سنبين في المسائل القريبة إن شاء الله.
أما بضاعة ركاب السفينة التي تخوض في بحر التمني الذي لا ساحل له فهي: مواعيد الشيطان، وخيالات المحال والبهتان، فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة والخيالات الباطلة تتلاعب براكبه كما تتلاعب الكلاب بالجيفة، وهي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية ليس لها همة تنال بها الحقائق الخارجية، بل اعتاضت عنها بالأماني الدنية، فيتمثل المتمني صورة مطلوبه في نفسه وقد فاز بوصلها، والتذ بالظفر بها، فبينما هو على هذه الحال إذ استيقظ فإذا يده والحصير في التراب! يعني: لم يحصل شيئاً؛ لأنه لا يحصل على شيء في عالم الحقيقة، بل كل إنجازاته في عالم الخيال.
وأحلام اليقظة بحد ذاتها ليست ضارة إذا كان يترتب عليها عملاً، فإذا كان الإنسان وهو مستيقظ يفكر أن يفعل كذا وكذا من أعمال الخير أو يخطط لشيء نافع له، ومادام هذا التخطيط ينقلب بعد ذلك إلى واقع فلا حرج في ذلك، لكن المشكلة في أن تكون كل حياته أحلام يقظة، ولا يفعل شيئاً على الإطلاق، فأنى ترتفع همة مثل هذا الشخص؟! يقول ابن القيم في مدارج السالكين: وهي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية، ليس لها همة تنال بها الحقائق الخارجية، بل اعتاضت عنها بالأماني الدنية، فيتمثل المتمني صورة مطلوبه في نفسه، وقد فاز بوصلها، والتذ بالظفر بها، فبينما هو على هذه الحال إذ استيقظ فإذا يده والحصير.
وقد جاء في بعض الكتب قصة فيها: أن ناسكاً كان له عسل وسمن في جرة، ففكر يوماً على طريقة الأماني الكاذبة فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشتري بالعشرة دراهم خمسة أعنز، فأولدهن في كل سنة مرتين، وحتى يبلغ النتاج مبلغاً، وأشتري بكل أربع -أي: أعنز- بقرة، وأشتري البذور، فأزرع، وينمو المال في يدي، فأتخذ المساكن والعبيد والإماء والأهل، ويولد لي ولد، فأسميه كذا، وآخذه بالأدب -وكان معه العصا- فإن هو عصاني ضربت بعصاي رأسه، ورفع العصا التي كانت في يده حاكياً للضرب فأصابت الجرة، فانكسرت، وانصب العسل والسمن على رأسه! فانتبه من رقدة الغفلة فالعمر قليل واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل وقال رجل لـ ابن سيرين: إني رأيت في منامي أني أسبح في غير ماء، وأطير بغير جناح، فما تفسير هذه الرؤيا؟ فقال له: أنت رجل كثير الأماني والأحلام.
وما أحسن ما قال أبو تمام: من كان مرعى عزمه وهمومه روض الأماني لم يزل مهزولاً يعني: أنه يشبه العزيمة والهمة بالمرعى، وأن الأرض التي ترعى فيها العزيمة أرض قاحلة، فيها أمانٍ كاذبة فقط، فستبقى عزيمته دائماً هزيلة لا تسمن؛ لأنها لا تأكل شيئاً.
وعن الحسن قال: المؤمن من يعلم أن ما قال الله عز وجل كما قال، والمؤمن أحسن الناس عملاً، وأشد الناس خوفاً، لو أنفق جبلاً من ماله في سبيل الله لا يأمن عذاب الله سبحانه وتعالى ولا سوء الخاتمة إلا بعد أن ينجيه الله، ويرى الجنة بعينيه.
أي: وأما قبل ذلك فلا يأمن.
ولا يزداد الإنسان صلاحاً وبراً وعبادةً إلا ازداد خوفاً من الله.
فكلما ازداد في العبادة كلما ازداد خوفه من الله.
وأما المنافق فيقول: سواد الناس كثير، وعدد الناس كثير، وسيغفر لي، ولا بأس علي، ويسيئ العمل، ويتمنى على الله تعالى.
وأما السلف الصالح فكانوا يحسنون ويخافون، أما نحن فنسيئ ونرجو ونطمع ونؤمل.
قال المتنبي منزهاً ممدوحه عن الاستغراق في أحلام اليقظة، ومبيناً كيف أجفى الحقائق واعتاد ركوب المخاطر: وما كنت ممن أدرك الملك بالمنى ولكن بأيام أشبن النواصيا لبست لها كدر العجاج كأنما ترى غير صافٍ أن ترى الجو صافيا يعني: هذه حالة استثنائية؛ فإذا كان الجو صافياً فإنه يبقى غير صافٍ؛ لأنك تعودت على المحن، وتعودت على الشدائد وخوض الأهوال.