للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ترفع أصحاب الهمة العالية عن الدنيا]

إن الدنيا جيفة، والأسد لا يقع على الجيف، ولقد بعثت بلقيس إلى سليمان عليه السلام بهدية، أرادت أن تختبر وتمتحن همة سليمان عليه السلام، فإذا كانت همته الدنيا فسيرضى ويفرح بهذه الهدية، حينئذ تعلم أنه لا يصلح للمعاشرة، وإن كانت همته عالية تطلب ما هو أعلى تيقنت أنه يصلح للمعاشرة، يقول تعالى حاكياً عن بلقيس: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:٣٥] يعني: فناظرة أهو طالب دنيا أم أنه رسول الله حقاً؟ {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:٣٦]، إلى آخر الآيات.

فالدنيا عند سليمان هي هدية بلقيس، فرفضها وتشوق إلى ما هو أعلى منها، كما فعل ذو القرنين: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} [الكهف:٩٤] أي: نعطيك مالاً، {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:٩٤] ماذا كان جوابه؟ {قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:٩٥] يعني: هذه الأموال اجعلوها لكم، فأنا في غنى عنها.

{مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف:٩٥].

وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (من أراد الآخرة أضر بالدنيا) وذلك لأن الدنيا والآخرة ضرتان إذا أرضيت واحدة أسخطت الأخرى، قال: (ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، يا قوم! فأضروا بالفاني للباقي).

من سفل الهمة في طلب الدنيا طلب الجاه والرياء والشهرة والسمعة وغير ذلك، فنحن نعلم أن أول ثلاثة تسعر بهم جهنم: رجل قاتل في سبيل الله حتى قتل، فيؤتى به ويسأله الله سبحانه وتعالى ويعرفه نعمه كلها عليه، فيقول: ما فعلت فيها؟ فيقول: قاتلت فيك حتى قتلت، قال: كذبت! بل قاتلت ليقال: جريء فقد قيل، هذا كانت همته تقف عند طلب الثناء من الناس، قوله: (فقد قيل) يعني: فقد نلت ما كنت تصبو إليه وحققت هدفك وهو الرياء والسمعة، وأن يتحدث الناس بأنك شجاع وجريء وأنك أبليت بلاء حسناً، فقد أخذت ثوابك، لكن بما أنه أشرك مع الله غيره، فإنه يعاقب بأن يؤمر به فيسحب على وجهه إلى النار.

وكذلك يقال للذي أنفق رياءً: كذبت، ولكن أنفقت ليقال هو جواد، فقد قيل، فيؤمر به فيسحب إلى النار، وكذلك في الذي طلب العلم يقال له: ولكنك قرأت أو تعلمت ليقال: عالم، فقد قيل، فيؤمر به فيسحب إلى النار.

فإذاً: الدنيا جيفة منتنة، والأسد لا يقع على الجيف.

يقو الإمام الشافعي رحمه الله تعالى مبيناً خطته في التعامل مع الدنيا: ومن يذق طعم الحياة فإني خبرتها وسيق إلي عذبها وعذابها فلم أرها إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها عشت سلماً لأهلها وإن تجتذبها ناهشتك كلابها.

<<  <  ج: ص:  >  >>