ومن مظاهر علو همة السلف في طلب العلم علو همتهم في الرحلة لطلب العلم.
فقد ذكر لإمام البخاري رحمه الله تعالى أن جابر بن عبد الله رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد.
ورحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى عقبة بن عامر في مصر ليروي عنه حديثاً، وذلك ليتلقاه منه مباشرة بسند عالٍ، فقدم مصر، ونزل عن راحلته، ولم يحل رحلها، فسمع منه الحديث، وركب راحلته وقفل إلى المدينة راجعاً.
ونحن في هذا الزمان نرى الذي يسافر للحج عن طريق البر يقول: لقد صبرت وعانيت! فتخيل أن أبا أيوب يسافر بجمل حتى يأتي عقبة بن عامر ويأخذ منه الحديث، ولا يحل الرحل والأشياء التي تكون على الراحلة، وإنما يسمع الحديث ثم يرجع إلى المدينة.
وقال مالك: عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد.
وقال أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي البصري: كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في البصرة، فما نرضى حتى نركب إلى المدينة فنسمعها من أفواههم.
وقال الحافظ ابن كثير في ترجمة الإمام البخاري رحمه الله تعالى: رحل -أي البخاري - إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنته الرحلة إليها، وكتب عن أكثر من ألف شيخ، قال الفربري: سمع الصحيح من البخاري معي نحو من سبعين ألفاً، لم يبق منهم أحد غيري.
وروي عن الرازي ما يدهش اللب من علو الهمة في الرحلة لتحصيل العلم، إذ قال: أول ما رحلت أقمت سبع سنين، ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ -والفرسخ ثلاثة أميال-، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشياً، ثم إلى الرملة في فلسطين ماشياً، ثم إلى طرسوس ولي عشرون سنة.
يقول الشاعر: سأضرب في طول البلاد وعرضها أنال مرادي أو أموت غريبا فإن تلفت نفسي فلله درها وإن سلمت كان الرجوع قريبا ولم ينتشر العلم في بلاد المغرب والأندلس إلا برجال رحلوا إلى الشرق، ولاقوا في رحلاتهم عناءً ونصباً، مثل أسد بن الفرات، وأبي الوليد الباجي، وأبي بكر بن العربي رحمهم الله تعالى أجمعين.