للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[علو الهمة في الدعاء والتحذير من ضد ذلك]

وعلمنا صلى الله عليه وآله وسلم علو الهمة في الدعاء، فأمرنا أن نسأل الله تعالى من فضله، ولا نستعظم شيئاً في قدرة الله وجوده وكرمه، ومن الأشياء المؤلمة أن الإنسان كلما طالع حث الرسول عليه الصلاة والسلام للأمة على علو الهمة يتذكر كثيراً من مواقف الصوفية، وكيف أنهم يخربون نفوس أتباعهم بتسفيل همتهم، وتظهر منهم أحياناً عبارات بشعة جداً فيها أشياء تصادم الدين، فهذا أحدهم يقول: أنا أستحيي أن أسأل الله الجنة، فأنا قدري أهون من أن أسأل الله الجنة! إلى آخر هذه المقولات المعروفة! فالرسول عليه الصلاة والسلام يحثك على أن تطمع في رحمة الله، وهل الجنة بعملك أم بفضل الله ورحمته؟ إن دخول الجنة إنما يكون بتوفيق الله سبحانه وتعالى وبرحمته، وحتى الطاعات التي تفعلها، فإنك لا تفعلها إلا بقوة الله؛ لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فاستمد القوة من الله، واطلب المدد من الله عز وجل.

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سأل أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه) يعني: اطمع فيما شئت من رحمة الله وفضله، فالله سبحانه وتعالى من كرمه وجوده يغضب من العبد إذا لم يسأله، وهذا شيء عجيب! جاء في الحديث الصحيح: (من لم يسأل الله يغضب عليه).

وبعض الشعراء يمدح رجلاً من البشر -والله عز وجل أولى بهذا الوصف بلا شك- فيقول: لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفيك ما علمتني الطلبا يعني: أنك لم تعلمني أن أطلبك إلا إذا أنت تريد أن تعطيني، فما دام أنك علمتني السؤال فأنت تريد أن تعطيني، فالله سبحانه وتعالى يعلمك أن تسأله، وأن تتوسل إليه، وأن تكثر من ذلك، وأن تطمع فيما شئت من رحمته وفضله عز وجل، فلا تقل: إن ذنوبي تحول دون أن أسأل الله العفو والمغفرة، ولا تقل: اللهم! ما كنت معذبي به في الآخرة فاجعله لي في الدنيا! فنفس اللسان الذي دعا بهذا البلاء يمكنه أن يدعو بالعافية، والله يحب العافية، ولعله يمنّ عليك بالعافية، فاحذر مظاهر تسفل الهمة في الدعاء.

إن الدعاء أسهل شيء يحصل به الإنسان ما شاء من مطالب الدنيا والآخرة، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام)؛ لأن الدعاء شيء تنال به أعلى المراتب في الدنيا والآخرة، والدعاء كلام، والله عز وجل عطاؤه كلام، ومنعه كلام كما قال عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢]، فكيف تقصر في الدعاء الذي هو سبب حصولك على كل المطالب التي قد تصبو إليها؟! فلا شك أن أعجز الناس من كان جالساً، مستريحاً، ومع ذلك لا يستوعب شروط الدعاء من الإخلاص والإخبات والتذلل لله، ولو استوعبها فإن الله يعطيه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً).

يقول الشاعر: لا تسألنّ بُنيَّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب الله يغضب إن تركت سؤاله وبُنَيّ آدم حين يسأل يغضب فابن آدم إذا سألته يغضب منك، ويتغير، ويتنمر، ويضجر منك، وأما الله سبحانه وتعالى فيغضب منك إذا لم تسأله، فهذا سبب من الأسباب العظيمة جداً في كسب الخيرات، وهو: علو الهمة في الدعاء، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا تمنى أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه عز وجل).

وعن العرباض رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس؛ فإنه سر الجنة) أي: لبابها وخلاصتها، وأفضل موضع فيها.

فهذا لا شك أنه درس وإرشاد؛ لكي تعلو الهمة ولا تتخاذل، ولا تقول كما يقول بعض الصوفية: أنا صاحب ذنوب، ولا أستحق الجنة، فإنّا نقول له: كونك لا تستحقها هذا أمر لا خلاف فيه، فكلنا لا يستحقها، لكن إذا كنت تسأل كريماً فاطمع في رحمته، وتذلل له، وقد وعد بأن يعطي.

وفي الحديث: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة).

وأنكر صلى الله عليه وسلم على من خالف هذا الهدي، وتضاءلت همته، وتواضعت طموحاته، فعن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من الأنصار قد خفت فصار مثل الفرخ) (خفت) أي: سكن وسكت من الضعف، يعني: كما نقول الآن: صار جلداً على عظم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل كنت تدعو بشيء تسأل الله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم! ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم! آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، قال: فدعا الله له فشفاه).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟ فقلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله) فانظر إلى همة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، حافظ السنة، وراوية الإسلام، فلم يكن عنده رغبة ولا هَمَّ في أمر الغنائم، ولا الطعام، ولا الدنيا، ولا كان عنده وقت أصلاً حتى يسعى لكسب الرزق، فقد كان من أهل الصفة، وأهل الصفة ليسوا -كما يتصور بعض الناس- أناساً عاطلين عن العمل، بل كانوا مجندين تحت أمر الرسول عليه الصلاة والسلام في الصُّفَّة التي كانت في المسجد النبوي، ومكانها معروف إلى الآن، فهم كانوا جنوداً محبوسين في سبيل الله، حتى إذا أتت مهمة كلفهم الرسول عليه الصلاة والسلام بالقيام بها، فكان يرسل بعضهم كي يعلم الناس القرآن أو يعلمهم أمور الدين، ويرسل مجموعة في سرية للجهاد، أو للغزو وغير ذلك، فهم كانوا جنود رسول الله عليه السلام، قال الله: {لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:٢٧٣] أي: حبسوا في سبيل الله {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} [البقرة:٢٧٣] فلم يكن عندهم وقت لذلك، بل هم متفرغون لخدمة الدين، فيقول له عليه الصلاة والسلام: (ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟! فقلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله، قال: فنزعت نمرة على ظهري، فبسطتها بيني وبينه حتى أني أنظر إلى القمل -ولعلها النمل ولكن تصحفت- يدب عليها، فحدثني حتى إذا استوعبت حديثه قال: اجمعها فصَّرها إليك -يعني: ضم هذه الكساء أو الثوب إلى صدرك- فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدثني).

ويروى أنه جاء رجل إلى زيد بن ثابت فرضي الله عنه فسأله عن شيء، فقال له زيد: (عليك بـ أبي هريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ذات يوم ندعو الله تعالى ونذكره إذ خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلينا، فسكتنا فقال: عودوا للذي كنتم فيه، قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم! إني أسألك ما سألك صاحبي هذان، وأسألك علماً لا ينسى، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: آمين، فقلنا: يا رسول الله! ونحن نسأل الله تعالى علماً لا ينسى، فقال: سبقكم به الغلام الدوسي) رضي الله تعالى عنه.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فقال: عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي وليس معه أحد -يعني: لم يستجب له أحد من قومه- فرأيت سواداً عظيماً سد الأفق، فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر، فرأيت سواداً عظيماً سد الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سواداً عظيماً سد الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن رضي الله عنه فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: اللهم اجعله منهم! ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة).

فهكذا كانوا رضي الله تعالى عنهم لا تلوح منقبة أخروية، ولا فضيلة دينية إلا صعدوا إليها، واستشرفوا لها، وتنافسوا فيها، فقد ذكرنا أن عالي الهمة لا يسمع بفضيلة إلا حثّ نفسه إلى أن ينالها مهما كانت، وأما فاتر الهمة فليس عنده تقدير لنفسه، ولا نقول: سافل الهمة؛ فقد يكون ضعيف الهمة إلى حد ما، فلا ترقى همته لهذا، فمثلاً: إذا سمع قول الرسول عليه السلام: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، فعالي الهمة تتحرك همته إلى أن يكون هو هذا المجدد، أما الآخر الذي تتواضع همته فيقول: لا، أنا مسكين، وأنا جاهل، وأنا عاجز، لذلك بالهمة يُفرَّق بين شخص وآخر.

ثبت في الصحاح وغيرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ليس بفرار، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها) يعني: يخوضون فيمن يدفعها إليه، يقال: وقع الناس في دوكة، إذا وقعوا في خوض واختلاط، قال: (فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها، حتى قال عمر: ما أحببت الإمارة إلا يومئذٍ) وهو لا يريد الرئاسة، لكنه يريد كلمة: (ويحبه الله ورسوله)، (فلما أصبح أعطاها علياً، ففتح الله على يديه).

وعن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال: (كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم نهاري، فإذا كان الليل أويت إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبت عنده، فلا أزال أسمعه يقول: سبحان الله، سبحا

<<  <  ج: ص:  >  >>