للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التنبيه على بعض العوائق والأخطاء في طلب العلم]

وبعد أن فرغنا من الكلام على علو الهمة لا شك أن هذا الكلام لم يكن المقصود به أن نستمتع بالكلام في سيرة السلف ونتفرج عليهم، وأن نكون كحال الترجمان الذي يقف أمام الآثار يصف عظمة الماضي في زعمه، ثم لا يقدم شيئاً إلى الحاضر أو المستقبل، خاصة وأن بنا من الآفات ومظاهر التقصير في طاعة الله سبحانه وتعالى ما يوجب علينا أن نجدد إيماننا، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم)، نسأل الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبنا أجمعين.

ولا نقتصر أيضاً على مجرد الدعاء؛ فإن الدعاء وإن كان داخلاً في الكلم الطيب لكن الكلم الطيب يحتاج إلى ما يحمله ويرفعه إلى السماء، وهو العمل، قال عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠].

ولا شك أن مفتاح الهداية إلى الطريق القويم هو العلم والتشبع بالعلم؛ لأن العلم هو المخرج من الفتن التي يموج بها هذا الزمان لكننا حينما نتوجه إلى طلب العلم نقع في كثير من الأخطاء التي تجعل السنوات تمر دون جدوى أو دون الحصيلة التي كان من المفترض أن نحصلها، فيوجد في بعض إخواننا -خاصة ممن ينتسبون إلى السلفية- ما يمكن أن نسميه: بعض النتوءات الفكرية، نتوءات شاذة غير سوية؛ لأنها مخالفة للمنهج السلفي.

ومظاهر هذه النتوءات الشاذة كثيرة، وسبق أن تكلمنا عنها في عدة مناسبات، لكننا محتاجون أن نعيد الكلام عليها من جديد، وقد تكلمنا فيما قبل على المنهج العلمي تحت عنوان: لمن تقرأ وماذا تقرأ؟ وفصلنا الكلام في هذا، ونحن بلا شك محتاجون إلى أن نجدد عهدنا بما قلناه قبل.

لكن أبدأ أولاً ببيان بعض العوائق التي تعيق طالب العلم عن المضي في الطريق الصحيح في طلب العلم، وهذه العوائق كثيرة، لكن أقتصر الآن على ما يمس موضوعنا: فمنها: عدم التدرج في العلم طلب العلم مثل السلم، ولا بد للإنسان أن يتدرج في الصعود عليه، ولذلك لا نرى أحداً من العلماء ينازع في أهمية مراعاة مبدأ التدرج في طلب العلم؛ لأن التدرج هو الوسيلة الناجحة لأخذ العلم وفهمه، والتدرج والتمهل ليس بدعاً من القول، وإنما هو مأخوذ من كتاب الله تبارك وتعالى؛ فقد قال الله عز وجل: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا} [الإسراء:١٠٦] فقوله: (على مكث) يعني: على تمهل، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:٣٢].

قال الزبيدي نقلاً عن كتاب الذريعة في وظائف المتعلم: يجب ألا يخوض في فن حتى يتناول من الفن الذي قبله على الترتيب بلغته، ويقضي منه حاجته؛ فازدحام العلم في السمع مضلة الفهم، وعلى هذا قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:١٢١]، يعني: لا يتجاوزون فناً حتى يحكموه علماً وعملاً، فيجب أن يقدم الأهم فالأهم من غير إخلال في الترتيب، فكثير من الأمراض الموجودة فينا معشر طلبة العلم هي نتيجة عدم مراعاة هذا الترتيب، فكثيرون يقفزون إلى بعض الدرجات العلا دون أن يراعوا التدرج والترتيب، فتوجد هذه النتوءات الشاذة التي تنتسب زوراً إلى السلفيين.

قال العلماء: من ترك الأصول حرم الوصول.

يعني: أن الأصول هي الأساس الذي ينبغي أن يبنى عليه البنيان، فمن تركها يحرم من الوصول إلى الغاية والهدف الذي يرومه، فحق على طالب العلم أن يكون قصده من كل علم يتحراه هو أن يتبلغ به إلى ما فوقه، ويتهيأ به إلى الدرجة التي تليها إلى أن يبلغ النهاية.

والتدرج يكون في أمرين: الأول: أن يتدرج بين الفنون نفسها.

والثاني: أن يتدرج في الفن الواحد نفسه، وكلا الأمرين يخضع لاجتهاد المعلم الذي يوجه الطالب، وطبيعة المكان والظروف والملابسات، ولذا فإن إشارات العلماء في التدرج تختلف باختلاف مذاهبهم وأماكنهم.

لكن يكاد العلماء والناصحون والمصنفون في هذا الباب من أهل العلم يتفقون على أن أولى الخطوات هي: الاهتمام والحفظ لكتاب الله تبارك وتعالى.

ورحم الله الإمام الحافظ ابن عبد البر إذ نعى طلب العلم في زمنه، فقال: واعلم -رحمك الله- أن طلب العلم في زماننا هذا وفي بلدنا قد حاد أهله عن طريق سلفهم، وسلكوا في ذلك ما لم يعرفه أئمتهم، وابتدعوا في ذلك ما بان به جهلهم وتقصيرهم عن مراتب العلماء قبلهم.

فإذاً: يقبح بنا ألا نقتدي بآثار من سبقنا من أهل العلم في طلب العلم والتدرج فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>