الخصلة الأخيرة من الخصال التي تميز بها السلف الصالح رحمهم الله تعالى هي مخاطرتهم بأنفسهم في نصرة الدين، فكان السلف رحمهم الله تعالى يفاصلون الباطل مفاصلة حاسمة، ويرفضون الالتقاء به في منتصف الطريق، ولسان حال كل واحد منهم كأنه يقول: كان العيش المتصالح والمهادنة مع الباطل ممكناً لي ولكنهم ركبوا مسلكاً يحيد عن الجدد المشرق وقد ملك الأمر منهم رجال يخالف منطقهم منطقي نأوا عن هدى الله في نهجهم وساروا وسرت فلم نلتق فعالي الهمة على بصيرة من دينه، واثق من منهجه، كما قال تعالى:{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}[الأنعام:٥٧] يعني: أنا واثق، وأعرف عقيدتي، وأعرف دليل كل عقيدة أعتقدها، وأعرف كيف أدفع كل شبهة ترد عليَّ ومن كان كذلك فهو واثق من المنهج، وواثق من الحق، فهو موقن برسالته وعقيدته ولو خالفه أهل الأرض قاطبة.
يقول أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي.
فكأنه يفترض أنه خلق وحده، وكلف بالحق وحده، وسيحاسب على الحق وحده، فمثل هذا لم يتعلل ولم يعتذر بأن كل الناس يفعلون الباطل، وأن كل الناس سيذهبون إلى النار، كما يقول من لا يفقه، فحينما تنصحه يجيبك بقوله: كل الناس يفعلون ما أفعل.
وهل كل الناس سيذهبون إلى النار؟! وعن حزم بن أبي حزم رحمه الله تعالى قال: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله -في كلام له-: (فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي، وكل سنة ينعشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيراً) يعني: لو كان مقابل كل بدعة أميتها وكل سنة أحييها أن تقطع قطعة من جسمي لكان ذلك في الله يسيراً.
وهذا المتكلم هو عمر بن عبد العزيز، وهو لا يتكلم كلام الشعراء الذين قال الله عز وجل فيهم:{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}[الشعراء:٢٢٦]، بل يتكلم كلام إمام من أئمة الهدى، فهو خليفة راشد مهدي رحمه الله تعالى، فكلامه يعكس ما يجده في قلبه من اليقين الجازم بكل كلمة وكل حرف ينطق به.
يقول رحمه الله:(فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي، وكل سنة ينعشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيراً) أي: كان في الله شيئاً يسيراً ورخيصاً في سبيل إعزاز هذا الدين.
فهو يعلم أن طريق الدعوة طويل وشاق، مملوء بالأشواك والصعاب، لا تتحمله إلا نفوس الرجال، ولا تقوم به إلا همم الصادقين الأبطال، ولا تقدر على مواصلة السير فيه النفوس المريضة المترهلة التي أصابها وهن العزيمة، ونضب وقود الإيمان فيها، هذا الطريق هو طريق الأنبياء، فيه تعب آدم، وناح لأجله نوح، ورمي الخليل في النار، وقدم للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، وقاسى المرض أيوب، وكذا كانت سيرة خاتم الأنبياء وسيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.
فالداعية الكبير الهمة لا يستسلم أمام قوة أهل الفجور وهواهم؛ لأنا نرى أن الترخص شأن العامة، وشأن المستضعفين، أما الدعاة والقادة والعلماء فيتمسكون بالعزيمة، ويصدعون بالحق، وإن لحقهم الأذى والعذاب والموت.