[نماذج من علو همة الشباب]
وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به وعزروه ونصوره واتبعوا النور الذي أنزل معه شباباً.
هذا أسامه بن زيد رضي الله تعالى عنهما أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجيش وكان عمره ثماني عشرة سنة.
وهذا عتاب بن أسيد رضي الله تعالى عنه استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مكة لما صار إلى حنين وعمره نيف وعشرون سنة.
وهناك نماذج أخرى لشباب الصحابة الذين أبلوا أحسن البلاء في حمل رسالة الإسلام ونشر نوره في العالمين.
فالشباب -كما ذكرنا- هو القوة الروحية والقوة البدنية، وهو فترة القدرة على إنجاز جسام المهام، فينبغي للإنسان أن يغتنمها كما نصحنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن هذه القدرات تضمحل بعد ذلك بمرور الوقت.
والصحابة رضي الله عنهم حينما تطالع سيرتهم في الجهاد تشعر بمدى القوة التي كانوا عليها رضي الله تعالى عنهم.
وبعض الناس يتصورون أن الصحابة كانوا ناساً عباداً يذكرون الله سبحانه وتعالى ويخلون في الخلوات ويصلون ويصومون ويتصدقون فقط، وأنهم كانوا ينصرون فقط بالمدد الرباني، ولا شك في أن هذا من أهم أسباب النصر، لكن الصحابة كانوا يأخذون بأسباب القوة، فالصحابة رضي الله عنهم ما كانوا بالصورة التي تريد الصوفية أن تزرعها في قلوبنا لنتصور بها السلف الصالح.
وقد حصلت مناقشة في موضوع الفتور البدني الموجود عند بعض الشباب، إذ أن بعض الشباب لا يهتم أبداً بقضية تنمية بدنه، فأنت -أيها الشاب- إذا لم تغتنم فرصة النمو الكبير في صحتك وفي عضلاتك في فترة الشباب فسيفوتك القطار، وبعد ذلك تعجز عن أن تنجز نفس هذه الأشياء، فينبغي الاهتمام بالصحة، والاهتمام بالرياضة البدنية، والاهتمام بقوة البدن، فنحن الآن في عصر كله يعين على الكسل والتراخي والترهل، فنحتاج إلى أن يكون في جدول كل منا نوع من الإنجاز بالجهد العضلي، حتى يستطيع الواحد منا أن يحافظ على صحته، ويكون قوياً يدافع عن نفسه على الأقل، وينهى عن المنكر إذا احتاج، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير).
فبعض الأخوة كنت في مناقشة معهم حول هذا، فقال لي أحدهم: هل الصحابة كانوا يجرون أو يمارسون شيئاً من هذه الرياضات؟ فقلت له: هل أنت غافل عن أن حياة الصحابة كلها عبارة عن حركة وركض وجهاد؟! فالصحابة رضي الله تعالى عنهم والأجيال التي فتحت الدنيا فتحتها بالأخذ بالأسباب التي منها الاهتمام بهذا الجانب، إن الصحابة ما عرفوا جلسة المكاتب، وما عرفوا قيادة السيارات، وما كانوا يجلسون على المكاتب حتى تنتفخ منهم الكروش، إن الصحابة ما عرفوا هذا، والسلف ما عرفوا هذا، وإنما عرفوا الجوع، وعرفوا السهر، وعرفوا الجد، وقد قال لي بعض الأخوة الأفاضل ممن كان يجيد ركوب الخيول في معرض هذا الكلام: إن ركوب الفرس يحتاج إلى قوة عضلية غير عادية.
ولعل من عنده خبرة بذلك يعرف ذلك؛ لأنه يكون غير جالس على ظهر الفرس، وإنما يكون واقفاً على قدميه، فيحتاج إلى قوة عضلية شديدة جداً.
فالصحابة لما خرجوا وجاهدوا في أقطار الأرض على الخيول كانوا أقوياء، ومنهم محمد بن مسلمة وعلي بن أبي طالب، بل إن بعض الناس حكى أنه رأى سيف خالد بن الوليد في بعض المتاحف في تركيا، وأن هذا السيف يحتاج إلى ستة أفراد أو عشرة أفراد حتى يستطيعوا أن يحملوا هذا السيف للضرب به والطعن.
فـ خالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب كانا من فرسان الإسلام، وما كانوا على التصور الصوفي الآن الموجود عن السلف رضي الله عنهم، بل السلف كانوا يأخذون بالقوة في كل جانب، سواء القوة البدنية أو القوة الإيمانية، وما كانوا يسلكون هذه المسالك التي نعاني منها نحن الآن من الجلوس على المكاتب والترفيه، وغير ذلك من هذه الصور.
قال يحيى بن معين رحمه الله تعالى للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وقد رآه يمشي خلف بغلة الشافعي: يا أبا عبد الله! تركت حديث سفيان بعلوه وتمشي خلف بغلة هذا الفتى وتسمع منه؟! فقال له الإمام أحمد: لو عرفت لكنت تمشي من الجانب الآخر؛ إن علم سفيان إن فاتني بعلو أدركته بنزول، وإن عقل هذا الشاب إن فاتني لن أدركه بعلو ولا نزول.
وقدم وفد على عمر بن عبد العزيز من العراق، فنظر إلى شاب منهم يريد الكلام، فقال عمر: كبر كبر.
فقال الفتى: يا أمير المؤمنين! إن الأمر ليس بالسن، ولو كان كذلك كان في المسلمين من هو أسن منك.
قال: صدقت، فتكلم.
ويقول الشاعر في خلاف هذا المعنى: إنما الظلم أن يساسوا بغر لم تعره الأيام رأياً وثيقا وحكى المسعودي في شرح المقامات أن المهدي لما دخل البصرة رأى إياس بن معاوية وهو صبي وخلفه أربعمائة من العلماء وأصحاب الطيالسة، أي: لما دخل البصرة رأى إياس بن معاوية مع أنه كان صبياً، لكن كان خلفه أربعمائة من العلماء وأصحاب الطيالسة وإياس أمامهم، فقال المهدي: أما كان فيهم شيخ يتقدمهم غير هذا الحدث؟! أي: ألم يجدوا غير هذا الشاب الحدث السن ليتقدم المشايخ وهؤلاء الناس الكبار؟! ثم إن المهدي التفت إليه وقال -أي: لـ إياس بن معاوية بن قرة بن شريك القاضي المعروف-: كم سنك يا فتى؟! فقال: سني -أطال الله بقاء الأمير- سن أسامة بن زيد بن حارثة لما ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فيهم أبو بكر وعمر.
فقال له: تقدم بارك الله فيك.
وذكر الخطيب في تاريخ بغداد أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنه عشرون سنة أو نحوها، فاستصغروه -أي أن الحاضرين استصغروه لصغر سنه حين ولي قضاء البصرة- فقالوا -ازدراء له-: كم سن القاضي؟ فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً على أهل مكة يوم الفتح -وكان سن عتاب خمساً وعشرين سنة-، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً على أهل اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن الخطاب قاضياً على البصرة.
فجعل جوابه احتجاجاً له.
وقال أبو اليقظان: ولى الحجاج محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم الثقفي قتال الأكراد بفارس، فأباد منهم، ثم ولاه السند فافتتح السند والهند، وكان عمره سبع عشرة سنة.
فيا حسرتاه على شباب المسلمين الآن الذين نراهم في الشوارع يعزفون ويسمعون الموسيقى الأمريكية، ويعلقون الأعلام الأمريكية على أعناقهم وفي سياراتهم! إنه خزي وعار لم يسبق له مثيل، وهو كذلك نوع من خفة الهمة إلى أسوأ الصور، ومعناه الضياع، والله المستعان.
فعلم أمريكا يعلقه أولاد المسلمين في سياراتهم الآن، وما بقي إلا علم إسرائيل! فـ محمد بن القاسم رحمه الله تعالى قاد الجيوش، وفتح السند والهند، وهو ابن سبع عشرة سنة، والسند والهند يراد بهما باكستان وبنجلاديش والهند وكشمير، كل هذه المنطقة يقال لها: الهند والسند، فقال فيه الشاعر: إن السماحة والمروءة والندى لمحمد بن قاسم بن محمد قاد الجيوش لسبع عشرة حجة يا قرب ذلك سؤدداً من مولد يعني أن السيادة والعلو والشرف ناله وهو قريب العهد بسن ميلاده.
ويروى: يا قرب ذا سورة من مولد.
والسورة هي المنزلة الرفيعة.
وكان حطيط الزيات مشهوراً جداً بموقفه العظيم مع الحجاج، فلما قبض عليه وذهبوا به إلى الحجاج بن يوسف الثقفي قال له الحجاج: أنت حطيط؟ قال: نعم، سل ما بدا لك؛ فإني عاهدت الله عند المقام على ثلاث خصال: إن سئلت لأصدقن، وإن ابتليت لأصبرن، وإن عوفيت لأشكرن.
فقال الحجاج: فما تقول فيِّ؟ قال حطيط: أقول: إنك من أعداء الله في الأرض؛ تنتهك المحارم، وتقتل بالظنة.
قال الحجاج: فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟ قال: أقول: إنه أعظم جرماً منك، وإنما أنت خطيئة من خطاياه.
فأمر الحجاج بتعذيبه، حتى انتهى به العذاب إلى أن يشقق له القصب، ثم جعلوه على لحمه، وشدوه بالحبال، ثم جعلوا يستلون قصبة قصبة، حتى انتزعوا لحمه - أي أن القصب نزع اللحم من جسده - فما سمعوه يقول شيئاً، ولا بدا عليه جزع أو ضعف، فأخبر الحجاج بأمره وأنه في الرمق الأخير، فقال: أخرجوه فاقتلوه في السوق.
ووقف عليه رجل وهو بين الحياة والموت يسأله: ألك حاجة؟ فما كان من حطيط إلا أن قال: مالي من حاجة في دنياكم إلا شربة ماء، فأتوه بشربة شربها، ثم مات، وكان رحمه الله تعالى ابن ثماني عشرة سنة.
وولي عبيد الله بن زياد خراسان وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وليها لـ معاوية رضي الله تعالى عنه، وولي معاذ بن جبل اليمن وهو ابن أقل من ثلاثين سنة، وحمل أبو مسلم أمر الدعوة والدولة وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وحمل الناس عن إبراهيم النخعي وهو ابن ثماني عشرة سنة، ومات سيبويه إمام النحو وحجة العرب وله من العمر اثنتان وثلاثون سنة.
قال البحتري في هذا المعنى وهو يمدح شخصاً اسمه العباس؛ لأنه أدرك المجد مع أنه صغير: لا تنظرن إلى العباس من صغر في السن وانظر إلى المجد الذي شادا إن النجوم نجوم الأفق أصغرها في العين أذهبها في الجو إصعادا فقوله: (لا تنظرن إلى العباس من صغر في السن) يعني: لا تحتقره لصغر س