[من أخبار فتح فارس]
وهناك صورة أخرى تجلت فيها أصالة التربية المحمدية لخير أمة أخرجت للناس عندما كانت تشغل الدنيا في اهتمامهم القدر الضئيل الذي تستحقه، أما الآخرة التي هي الهم الأكبر عندهم فهي الغاية العظمى والحياة الحقيقية الخالدة.
جاء سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه حتى نزل القادسية، والمسلمون الذين معه نحو سبعة آلاف، والفرس يبلغون ثلاثين ألفاً أو نحواً من ذلك، وكانت نبال المسلمين وعدتهم موضع سخرية أهل فارس، وجعلوا يشبهونها بالمغازل فيقولون: دوك دوك.
وهي كلمة بالفارسية تعني المغزل، فكانوا يسخرون من الأقواس ويشبهونها بالمغزل الذي يغزل به القطن، وقالوا هذا تعبيراً عن ازدرائهم للمسلمين واحتقارهم إياهم، وكأنهم يقولون لهم: لا يد لكم ولا قوة ولا سلاح، فما جاء بكم؟! ارجعوا.
فلما أدخل رسل المسلمين على كسرى يزدجرد جعل أهل فارس يسوءهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم، فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس، وكان سيء الأدب، فكان أول شيء دار بينه وبينهم أن أمر الترجمان أن يسألهم عما يسمون تلك الأغطية التي يلبسونها، وهذا من سوء أدبه، حيث لم يبدأ في الحوار مع هؤلاء المرسلين في القضية التي أرسلوا من أجلها، ولكن أراد أن يسخر من رداءة ثيابهم، فهذه هي القيم الفارسية والموازين التي يزنون بها الناس، فكان الصحابة رضي الله عنهم كلما سأل واحداً منهم يجيبه جواباً يجعله يتطير من الجواب، وهذا من الحرب النفسية، فلما عرض النعمان بن مقرن دعوة الإسلام على كسرى قال كسرى: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم، وقد كنا نوكل عليكم القرى فيكفوننا إياكم، لا تغزون فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عددكم زاد وكثر فلا تغتروا، وإن كان الجهد -أي: الفقر- دعاكم صرفنا لكم قوتاً إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم.
فأسكت القوم، فقام المغيرة بن زرارة الأسيدي فقال: أيها الملك! إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً، فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات فنرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا في الجاهلية أن يقتل بعضنا بعضاً، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليقتل ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث الله إلينا رجلاً -صلى الله عليه وسلم- نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وكان خيرنا في الحال التي كنا فيها، وأصدقنا وأحلمنا، فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أول من ترب كان له.
والإشارة هنا إلى الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه، والترب قرينك في السن، قال: فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أول من ترب كان له، وكان الخليفة بعده، فآمن وكفرنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئاً إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه، فصار بيننا وبين رب العالمين، فما قال فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله، فقال لنا: إن ربكم يقول: إنني أنا الله وحدي لا شريك له، كنت ولم يكن شيء، فإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم من عذابي، ولأحلكم داري دار السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق، وقال: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم، فمن قُتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه، فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجي نفسك.
فقال: أتستقبلني بمثل هذا؟! فقال: ما استقبلت إلا من كلمني، ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به.
فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم.
وقال: ائتوني بوقر من التراب، واحملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن، وارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليكم رستم حتى يدفنكم في خندق القادسية وينكل بكم، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور.
فتقدم عاصم بن عمرو واحتمل وقر التراب واعتبره فألاً حسناً على الظفر بأرضهم، وأن الله سبحانه وتعالى سوف يظفرهم بأرضهم، وقد تطير من ذلك رستم، وجعله علامة على أن الله سلبهم أرضهم وأبناءهم للمسلمين، ثم إن كسرى بعث أهل فارس بعددهم وعُدَدِهم وعلى رأسهم رستم، حتى إذا نزل رستم بالعقيق على منقطع معسكر المسلمين راسل رستم زهرة فخرج إليه حتى وافقه، فأراد أن يصالحه ويجعل له جعلاً على أن ينصرفوا عنه، وجعل يقول: أنتم جيراننا، وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا.
فقال له زهرة: صدقت، قد كان ما تذكر، وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا، إنا لم نأتكم لطلب الدنيا، إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة، كنا كما ذكرت يدين لكم من ورد عليكم منا، ويضرع إليكم ويطلب ما في أيديكم، ثم بعث الله تبارك وتعالى إلينا رسولاً فدعانا إلى ربه فأجبناه، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني، فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا يقرون به، وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به أحد إلا عز.
فقال له رستم: وما هو؟ قال: أما عموده الذي لا يصلح منه شيء إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى، فقال: ما أحسن هذا! وأي شيء أيضاً؟ قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى.
قال: حسن، وأي شيء أيضاً؟ قال: والناس بنو آدم وحواء إخوة لأب وأم.
قال: ما أحسن هذا! ثم قال رستم: أرأيت لو أني رضيت بهذا الأمر وعاهدتكم عليه ومعي قومي كيف يكون أمركم؟ أترجعون؟ يعني: لو دخلنا في الإسلام هل تتركوننا وتعودون؟ فقال: إي والله، ثم لا نقرب بلادكم أبداً إلا في تجارة أو حاجة.
قال: صدقتني والله، أما إن أهل فارس منذ ولي أردشير لم يدعوا أحداً يخرج من عمله من السفلة وهم الأسافل، كانوا يقولون: إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادَوا أشرافهم.
يعني أن الطبقة السفلى من المجتمع لا يمكن أن يتساووا مع النبلاء والملوك والأمراء؛ لأنهم إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادَوا أشرافهم، فكأنه يريد ميزة يمتاز بها على هؤلاء الضعفاء، فأجابه زهرة فقال: نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقولون، فنحن نطيع الله في السفلة ولا يضرنا من عصا الله فينا.
فانصرف عنه، وطلب رستم مندوباً آخر، ثم إن سعداً أرسل ربعي بن عامر رضي الله عنه، فدخل على رستم وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي من الحرير، وأظهر اللآلئ الثمينة العظيمة، وأراد أن يهزمه بهذه المظاهر، وكان عليه تاج، وأظهر غير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب.
ودخل ربعي بثياب مشققة، وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، فـ ربعي يريد أن يعلمه أن كل هذه المظاهر لا تساوي عندهم شيئاً، بل حقرها بالفعل، وذلك أنه نزل عن فرسه وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك.
فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت فقال رستم: ائذنوا له.
فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فمزق عامتها بالرمح، فقال له: ما جاء بكم؟ فانظر إلى جواب رجل من جنود المسلمين، وانظر إلى فقهه لغايته من الحياة، وفهمه للرسالة التي يعيش من أجلها، وقارن بين شباب المسلمين اليوم لترى لأي شيء يعيشون، وما هدفهم وغايتهم.
فقال له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى ذلك قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله.
قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي.
فقال رستم لرؤساء أهل فارس: ما ترون؟! هل رأيتم كلاماً قط أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل؟! فقالوا: معاذ الله لك أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكل، أما ترى إلى ثيابه؟! فقال: ويحكم! لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة.
وأقبلوا يسخرون من سلاحه ومن ملابسه ومن هيئته، فأبى الفرس دعوة الحق، واختاروا المنازلة، فنصر الله المسلمين وهزموا فارس وسبوهم.
وكان يزدجرد ملك الفرس قد أرسل يستنجد بملك الصين، ووصف له المسلمين ودعوتهم وما هم عليه، فأجابه ملك الصين: إنه يمكنني أن أبعث لك جيشاً أوله في منابت الزيتون -يعني: في الشام- وآخره في الصين، ولكن إن كان هؤلاء القوم كما تقول فإنه لا يقوم لهم أهل الأرض، فأرى لك أن تصالحهم وتعيش في ظلهم وظل عدلهم.
فهذه نماذج تدل على موقع الدنيا في قلوب الرعيل الأول، ولو استطردنا لوجدنا عشرات الصور في التاريخ الإسلامي تعكس هذا المعنى.