للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[علو همة السلطان محمد الفاتح العثماني رحمه الله]

ومن عجيب النماذج الناجحة في زراعة الهمة العالية في الأطفال ما يقال من أن الشيخ مصطفى آغا شمس الدين كان أحد مشايخ السلطان محمد الفاتح العثماني رحمه الله، وقد كان شيخه هذا يأخذ بيده، ويمر به على الساحل، ويشير إلى أسوار القسطنطينية التي تلوح من بعد شاهقة حصينة، وأسوار القسطنطينية أسوار عظيمة، بل إن الإنسان حين يتخيلها لا يكاد يتصورها؛ لأن أول طبقة من طبقات السور ارتفاعها أربعون متراً.

فكان يقول له: يا بني! أترى هذه المدينة التي تلوح في الأفق؟! إنها مدينة القسطنطينية، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً من أمته سيفتحها بجيشه، ويضمها إلى أمة التوحيد، فقال فيما روي عنه صلى الله عليه وسلم: (لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش)، وإن كان العلماء يضعفون هذا الحديث، لكن الشيخ حينما كان يقول له ذلك يبدو أنه كان يعتقد صحته.

وما زال الشيخ يكرر هذه الإشارة على مسمع الأمير الصبي إلى أن نمت شجرة الهمة في نفسه العبقرية، وترعرعت في قلبه، فعقد العزم على أن يجتهد ليكون هو ذلك الفاتح الذي بشر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وقد كان، فقد كان والده السلطان مراد الثاني يستصحب ابنه منذ الصغر بين حين وآخر إلى بعض المعارك؛ ليعتاد مشاهدة الحرب والطعان ومناظر الجنود في تحركاتهم ونزالهم، وليتعلم قيادة الجيش وفنون القتال عملياً، حتى إذا ما ولي السلطنة وخاض غمار المعارك خاضها عن دراية وخبرة.

والسلطان محمد الفاتح العثماني كان له بعد الله سبحانه وتعالى الفضل في إسلام كثير من شعوب أوروبا، خاصة أهل البوسنة والهرسك؛ لأنَّه في ذلك الوقت الذي فتح فيه البوسنة والهرسك كان قد بدأ يظهر في بلاد البوشناق أو البوسنة مذهب شباب متمرد على النصرانية، مذهب يحن إلى أصول النصرانية، وأحدثوا مذهباً نصرانياً جديداً، فيه التبرؤ من كثير من مظاهر الوثنية والشرك والتثليث وعبادة المسيح عليه السلام، فكانوا يُحاربون من الكاثوليك ومن الأرثوذكس، والأرثوذكس هم الصرب لعنهم الله، وكذلك الكروات الكاثوليك لعنهم الله، فكان الصراع على أشده في هذا الوقت بين هذه الطوائف، فلما دخل محمد الفاتح العثماني رحمه الله تعالى وأشرق عليهم نور الإسلام انقادوا للإسلام، ودخلت الأمة البوسنية تقريباً بكاملها في دين الإسلام.

فالشاهد أن شيخه لما ربى وزرع الهمة العالية في نفسه منذ طفولته تحقق الوعد المرجو، ولما جاء اليوم الموعود شرع السلطان محمد الفاتح في مفاوضة الإمبراطور قسطنطين ليسلمه القسطنطينية، فلما بلغه رفض الإمبراطور تسليم المدينة قال رحمه الله: حسناً! عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر! إنه التصميم على إحدى الحسنيين.

وحاصر السلطان محمد الفاتح -وأنعم به من فاتح- القسطنطينية واحداً وخمسين يوماً، تعددت خلالها المعارك العنيفة، وبعدها سقطت المدينة الحصينة التي استعصت على الفاتحين قبله، سقطت على يد بطل شاب له من العمر يومئذٍ ثلاث وعشرون سنة، فقد كان عمر محمد الفاتح يوم فتح القسطنطينية ثلاث وعشرون سنة.

وننتقل الآن إلى تربية أبنائنا وتربية الشباب الآن، فتخيل واحداً منهم في سن ثلاث وعشرين سنة، فهل يمكن أن يقود الجيوش، ويفتح البلاد والأمصار، ويدير أمة بكاملها؟! والفاتح كان قد ولي السلطنة قبل ذلك بسنوات، وفي سن ثلاث وعشرين سنة فتح القسطنطينية، فرحمه الله تعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>