[أسس الهمة العالية ومظانها ومآل أصحابها]
يقول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: الهمة العالية لا تزال تحوم حول ثلاثة أشياء: تعرف لصفة من الصفات العليا تزداد بمعرفتها محبة وإرادة، وملاحظة لمنة تزداد بملاحظتها شكراً وطاعة، وتذكر لذنب تزداد بتذكره توبة وخشية، فإذا تعلقت الهمة بسوى هذه الثلاث جالت في أودية الوساوس والخطرات.
وقال بعضهم أيضاً: القلوب: إما قلب يحوم حول العرش، وإما قلب يحوم حول الحش.
ويقول الغزالي رحمه الله تعالى في منهاج العابدين: الملك والكرامة بالحقيقة في الدنيا لأولياء الله عز وجل وأصفيائه الراضين بقضائه، فالبر والبحر والأرض والحجر والمدر لهم ذهب وفضة، والجن والإنس والبهائم والطير لهم مسخرون، لا يشاءون إلا ما شاء الله وما شاء الله كان، ولا يهابون أحداً من الخلق ويهابهم كل الخلق، ولا يخدمون أحداً إلا الله عز وجل ويخدمهم كل من دون الله.
وأين لملوك الدنيا بعشر هذه المرتبة، بل هم أقل وأذل، أما ملك الآخرة فيقول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} [الإنسان:٢٠] أي: هناك، {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان:٢٠] وأَعْظِمْ بما يقول فيه رب العزة إنه ملك كبير، وأنت تعلم أن الدنيا بأسرها قليلة، وأن بقاءها من أولها إلى آخرها لقليل، ونصيب أحدنا من هذا القليل قليل، ثم الواحد منا قد يبذل ماله وروحه حتى ربما يظفر بقدر قليل من هذا القليل في بقاء قليل، وإن حصل له ذلك فيعظم بل يغبط، ولا يستكثر ما بذل فيه من المال والنفس، نحو ما ذكر عن امرئ القيس حيث يقول: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا ثم يقول: فكيف حال من يطلب الملك الكبير في دار النعيم الخالد المقيم.
يعني: إذا كان الجاهلي يبحث ويكدح في سبيل طلب ملك دنيوي، يقول: أنا عملت ما استطعت فإن نلت الملك فهذا ما أريده، وإلا فأكون قد أعذرت نفسي.
فيقول: فيكف حال من يطلب الملك الكبير في دار النعيم الخالد المقيم، أيستكثر مع ذلك أن يصلي ركعتين لله تعالى أو ينفق درهمين أو يسهر ليلتين؟ كلا! بل لو كان له ألف ألف نفس وألف ألف روح وألف ألف عمر، كل عمر مثل الدنيا وأكبر وأكثر، فبذل ذلك كله في المطلوب العزيز لكان ذلك قليلاً، ولئن ظفر بعده بما طلب لكان ذلك غنماً عظيماً وفضلاً من الذي أعطاه كثيراً.
انتهى كلام الغزالي.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في طاعة الله عز وجل لحقره يوم القيامة)، يعني: لو أن رجلاً اجتهد في عبادة الله من يوم أن ولد، إلى أن يموت شيخاً كبيراً، ثم لقي الله سبحانه وتعالى في الآخرة ورأى أهوال يوم القيامة، ورأى النار وما فيها والجنة وما فيها، لاحتقر هذا العمل يوم القيامة، ولقال: ما عبدت الله حق عبادته، وما عبدته عبادة تؤهلني أن أنال هذا الملك الكبير في الجنة، هذا لما ينكشف له عياناً من عظيم نواله وباهر عطائه، فأَخْلِقْ بمثل هذا الشخص الذي فقه هذا الفقه الحقيقي وأحرى به إذا عاين جنة الرضوان أن يتمثل قول القائل: وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غاية ما بعدها لي مذهب فلما تلاقينا وعاينت حسنها تيقنت أني إنما كنت ألعب فإذا كان هذا حال من عشق امرأة قبل أن يصل إليها وقبل أن يراها، فأولى بالمؤمن إذا عاين الجنة أن يقول هذا.
إن كبير الهمة لا يعتد بما له فناء، ولا يرضى بحياة مستعارة، ولا بقنية مستردة، بل همه قنية مؤبدة -والقنية هي ما يكتسب- وحياة مخلدة، فهو لا يزال يحلق في سماء المعالي، ولا ينتهي تحليقه دون عليين، فهي غايته العظمى وهمه الأسمى، حيث لا نقص ولا كدر ولا تعب ولا نصب ولا همَّ ولا غمَّ ولا حزن، إنما هي نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، في مقام أبدي، في حبرة ونضرة، في دور عالية بهية، وهناك تقر عينه وتهدأ نفسه ويستريح قلبه، قال تعالى في أهل الجنة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:١٠٧ - ١٠٨] فالإنسان مهما نال من الدنيا أو عاش في قصر مشيد أو في غير ذلك من متاع الدنيا، فإنه بعد فترة يمله ويريد أن ينتقل إلى غيره، أما الجنة فلا يوجد فيها ملل، بل هي قرة عين، وحينئذ يطمئن المؤمن ولا يطلب إلا ما هو أعلى؛ لأنه كما قال تعالى: (أعدت فيها لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) فلذلك قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:١٠٨]، وأخلق بمثل هذه الدار أن يبيع الإنسان نفسه وماله وكل الدنيا في سبيل أن يخطى بها.
الجنة هي الوطن، والأوطار إنما تطلب في الأوطان، أما الدنيا فهي دار غربة منذ أهبط إليها الأبوان.