شرف النفس ومعرفة قدرها من خصائص كبير الهمة، ونحتاج إلى بيان بعض الفروق الدقيقة بين بعض المتضادات من هذه المعاني، فقد تلبس النفس الأمارة بالسوء على العبد أموراً يحبها الله سبحانه وتعالى ويرضاها بأمور يبغضها الله عز وجل، فلدقة الخيط أو الحد الفاصل بين هذين الأمرين لا ينجو من هذا التلبيس إلا أرباب البصائر ذوو النفوس المطمئنة، وقد عقد الإمام المحقق ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى فصولاً نافعة بين فيها هذه الدقائق النفيسة في كتابه (الروح) نجتزئ منها بما نحتاج في هذا المقام، فقد بين رحمه الله تعالى الفرق بين شرف النفس والتيه، فشرف النفس هو صيانتها عن الدنايا والرذائل والمطامع التي تقطع أعناق الرجال، فيرفع المرء نفسه عن أن يلقيها في ذلك، بخلاف التيه، فإنه خلق متولداً بين أمرين: إعجابه بنفسه وازدرائه بغيره، فالشخص الذي يتيه على الناس ويتكبر عليهم هذا الخلق منه ثمرة أمرين اثنين: أولاً: أنه يعجب بنفسه، ثم يزدري ويحتقر الآخرين، فيعجب بنفسه ويزدري غيره، فيتولد بينهما المولود الجنين الذي ينشأ من التزاوج بين الإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين وازدرائهم، وهو التيه على خلق الله سبحانه وتعالى.
أما شرف النفس فإنه يتولد من خلقين كريمين: الخلق الأول: إعزاز النفس وإكرامها، فهو يعز نفسه ويكرمها.
الخلق الثاني: تعظيم مالكها وسيدها، فمن تعظيم مالكها وربها أن يكون عبده ذليلاً، فيتولد من بين هذين الخلقين شرف النفس وصيانتها، وأصل هذا كله استعداد النفس وتهيؤها، وإمداد وليها ومولاها لها، فإذا فقد الاستعداد والإمداد فقد الخير كله.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: والفرق بين الصيانة والتكبر أن الصائن لنفسه بمنزلة رجل قد لبس ثوباً جديداً نقي البياض ذا ثمن، فهو يدخل به -بهذا الثوب الغالي النفيس النقي الأبيض- على الملوك فمن دونهم، فهو يصونه عن الوسخ والغبار والطبوع وأنواع الآثار إبقاءً على بياضه ونقائه، فتراه صاحب تعزز وهروب من المواضع التي يخشى منها عليه التلوث، فلا يسمح بأثر ولا طبع ولا لوث يعلو ثيابه، وإن أصابه شيء من ذلك على غرة بادر إلى قلعه وإزالته ومحو أثره، وهكذا الصائن لقلبه ودينه، تراه يجتنب طبوع الذنوب وآثارها، فإن لها في القلب طبوعاً وآثاراً أعظم من الطبوع الفاحشة في الثوب النقي البياض، ولكن على العيون غشاوة أن تدرك تلك الطبوع، فتراه يهرب من مضان التلوث، ويختلي من الخلق، ويتباعد من مخالطتهم مخافة أن يحصل لقلبه ما يحصل للثوب الذي يخالط الدباغين والذباحين والطباخين ونحوهم، بخلاف صاحب العلو المتكبر، فإنه وإن شابه هذا في تحرزه وتجنبه فهو يقصد بالتحرز أن يعلو رقابهم، ويجعلهم تحت قدمه، فهذا لون وذاك لون، أما الكبر فإنه أثر من آثار العجب والبغي من قلب قد امتلأ بالجهل والظلم، فرحلت منه العبودية، ونزل عليه المقت، فنظره إلى الناس شزر، ومشيه بينهم تبختر، ومعاملته لهم معاملة الاستئثار لا معاملة الإيثار ولا الإنصاف، ذاهب بنفسه تيهاً، لا يبدأ من لقيه بالسلام، وإن رد عليه رأى أنه قد بالغ عليه في الإنعام، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه، ولا يرى لأحد عليه حقاً، ويرى حقوقه على الناس، ولا يرى فضلهم عليه، ويرى فضله عليهم، لا يزداد من الله إلا بعداً، ومن الناس إلى صغاراً أو بغضاً.
والفرق بين التواضع والمهانة أن التواضع يتولد من بين العلم بالله سبحانه وتعالى ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها، فيتولد من بين ذلك كله خلق هو التواضع، وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة بعباده، فلا يرى له على أحد فضلاً، ولا يرى له عند أحد حقاً، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله، وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه.
وأما المهانة فهي الدناءة والخسة وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها، كتواضع السفل في نيل شهواتهم، وتواضع المفعول به للفاعل، وتواضع طالب كل حض لمن يرجو نيل حظه منه، فهذا كله ضعة لا تواضع، والله سبحانه وتعالى يحب التواضع ويبغض الضعة والمهانة.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال:(وأوحى الله إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد).
سبحانك -اللهم- وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.