[حرمة التفاخر بالأحساب على وجه الاستكبار]
تواردت نصوص الشريعة المطهرة على التنفير من التفاخر بالأحساب إذا كان على وجه الاستكبار والاستحقار، وبذلك نطقت الأخبار، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:١٣].
وفي الآية إشارة إلى وجه رد التفاخر بالنسب، حيث أفادت أن شرف النسب غير مكتسب، فشرف النسب لا يدخل في كسب الإنسان، يقول تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:٣٩]، فالنسب ليس مكتسباً، ولا فرق بين النسيب وغيره من جهة المادة: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:١٣]، وآدم خلق من تراب، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم.
فلا فرق بين النسيب وغيره من جهة المادة لاتحاد ما خلقا منه، ولا من جهة الفاعل؛ لأن الفاعل الخالق هو الله تعالى وحده، فليس للنسب شرف يعول عليه، فالمدار عند الله عز وجل على التقوى، ولا أحد أكرم من أحد عنده سبحانه إلا بالتقوى، قال الله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣].
وبالتقوى تكمل النفس، وتتفاضل الأعمال، وقد رتب تعالى الجزاء على الأعمال لا على الأنساب، كما قال عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:١٠١]، وقال صلى الله عليه وسلم: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، ومعناه أن العمل هو الذي يبلغ بالعبد درجات الآخرة.
قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: يأمر الله بالصراط فيضرب على جهنم، فيمر الناس على قدر أعمالهم زمراً زمراً -ولم يقل: على قدر أنسابهم.
وإنما قال: على قدر أعمالهم- أوائلهم كلمح البصر، ثم كمر الريح، ثم كمر السيل، ثم كمر البهائم، حتى يمر الرجل سعياً، وحتى يمر الرجل مشياً، حتى يمر آخرهم يتلبط على بطنه، فيقول: يا رب! لم بطأت بي؟! فيقول: إني لم أبطأ بك، إنما بطأ بك عملك.
وها هو صلى الله عليه وآله وسلم يحرض أهل بيته وعشيرته الأقربين على لزوم التقوى، ويحذرهم من الاتكال على نسبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف أنساب العالمين، فتقصر خطاهم عن اللحوق بالسابقين من المتقين كي يجتمع لهم الشرفان شرف التقوى وشرف النسب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً) متفق عليه.
وفي حديث في غير الصحيحين: (إن أوليائي منكم المتقون، لا يأتي الناس بأعمال وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم فتقولون: يا محمد! فأقول: قد بلغت).
وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليي الله وصالح المؤمنين) يشير إلى أن ولايته لا تنال بالنسب وإن قرب، فإنما تنال بالإيمان والعمل الصالح، فمن كان أكمل إيماناً وعملاً فهو أعظم ولاية له، سواء أكان له منه نسب قريب أم لم يكن، ولذلك فإن الصحيح في تعريف آل محمد عليه الصلاة والسلام أنهم أتباعه على الراجح.
فالاتكال على النسب وترك النفس وهواها من ضعف الرأي وقلة العقل، ويكفي في هذا قوله تعالى لنوح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- في شأن ابنه: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:٤٦] وقد كان من صلبه قطعاً، ومعنى قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:٤٦] أي: ليس من المؤمنين.
وكان إيمان سلمان الفارسي له نسباً، حتى روي في حقه حديث: (سلمان منا أهل البيت)، ونوح لم يكن بينه وبين ابنه الذي من صلبه رحم، قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:٤٦]؛ لأنه ليس من المتقين، قال بعضهم: عليك بتقوى الله في كل حالة ولا تترك التقوى اتكالاً على النسب فقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر النسيب أبا لهب قيل لـ شريح: من أنت؟ قال: ممن أنعم الله عليه بالإسلام، وعدادي في كندة.
وقال ثابت البناني: قال أبو عبيدة: يا أيها الناس! إني امرؤ من قريش، وما منكم من أحمر ولا أسود يفضلني بتقوى إلا وددت أني في مسلاخه.
يعني: أن أكون داخل جلده ما دام تقياً.
وروي أنه قيل لـ سلمان الفارسي: انتسب يا سلمان.
فقال رضي الله عنه: ما أعرف لي أباً في الإسلام، ولكني سلمان ابن الإسلام، ولله در القائل: بعيد القوم ينصر مدعيه ليلحقه بذي الحسب الصميم أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم وبينما يقول خسيس الهمة المفتون بعشق امرأة: فلا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي رأينا كبير الهمة يتشرف بنسبته إلى الله عز وجل فيقول: فلا تدعني إلا بيا عبده فإنه أشرف أسمائي.
وما أحسن من قال شعراً: ومما زادني شرفاً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً ويقول آخر: كفى بك عزاً أنك له عبد وكفى بك فخراً أنه لك رب ويقول آخر: إذا عز لغير الله يوماً معشر هانوا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية -أي: تفاخرها بالآباء- الناس بنو آدم، وآدم من تراب، مؤمن تقي وفاجر شقي، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم) مثلما يُفتَخَر الآن بأخبث خلق الله من الفراعنة لعنهم الله، يفتخر بهم في عبادة الأحجار والملوك والأصنام والشرك والسحر ونحو هذه الضلالات! فبئس النسب، فالله عز وجل شرفنا بالإسلام، فكيف نفتخر بانتمائنا إلى أخس خلق الله وأذل خلق الله، الذين عبدوا ملوكهم وأشركوا بربهم سبحانه وتعالى؟! كيف نكفر بنعمة الله علينا بالإسلام ونفخر بالانتساب إلى الفراعنة؟! وبعضهم يقول: الجيل الجديد ما عنده انتماء! فأي انتماء يقصده؟! إنه انتماء لـ خوفو وخفرع ومنقرع! انتماء إلى عبدة الملوك والمشركين والوثنيين! فالله المستعان! يقول عليه الصلاة والسلام: (لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها) والجعلان: جمع جعل، وهي دويبة أرضية مثل الخنافس تدفع النتن -وفي لفظ آخر: الخرأة- بأنفها، فالذين يفخرون بأي رابطة غير رابطة الإسلام ينطبق عليهم هذا الوعيد، وهو أن الله يجعلهم أحقر وأذل وأهون من الجعلان التي تدفع النتن والنجس بأنفها.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له وقد التفت نحو المدينة: (إن أهل بيتي هؤلاء يرون أنهم أولى الناس بي، وإن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا).
فالحزم اللائق بالنسيب أن يتقي الله تعالى، ويتخذ من الخصال الحميدة ما لو كان في غير نسيب لكفته؛ ليكون قد زاد على الزبد شهداً، وعلق على جيد الحسناء عقداً، ولا يكتفي بمجرد الانتساب إلى جدود سلكوا ليقال له: نعم الجدود ولكن بئس ما خلفوا.
وقد ابتلي كثير من الناس بذلك، فترى أحدهم يفتخر بعظم بال وهو عار كالإبرة من كل كمال، ويقول: كان أبي كذا وكذا.
وافتخاره بأبيه نحو افتخار الكوسج بلحية أخيه، والكوسج هو الذي لا يوجد له شعر على عارضيه، فهل يصح أن يفتخر بأن أخاه لحيته طويلة وكثة.
يقول شوقي: فدعوا التفاخر بالتراب وإن علا فالمجد كسب والزمان عصام.
وقال الشاعر أيضاً: وأعجب شيء إلى عاقل أناس عن الفضل مستأخرة إذا سئلوا من علا أشاروا إلى عظام ناخرة وقال بعضهم: أقول لمن غدا في كل وقت يباهينا بأسلاف عظام أتقنع بالعظام وأنت تدري بأن الكلب يقنع بالعظام وما ألطف قول الشاعر: لم يجزك الحسب العالي بغير تقى ما أولاك شيئاً فحاذر واتق الله وابغ الكرامة في نيل الفخار به فأكرم الناس عند الله أتقاها وما أكثر هذا الافتخار البارد بين خفيفي الهمة الذين ارتكبوا كل رذيلة، وتعروا عن كل فضيلة، ومع ذلك افتخروا بآبائهم على فضلاء البرية، واحتقروا أناساً فاقوهم حسباً ونسباً، وشرفوهم أماً وأباً، وهذا هو الضلال البعيد، والحمق الذي ليس له مثيل.