للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[لا إفراط في علو الهمة]

ليس في علو الهمة إفراط في الحقيقة، كل شيء في الوجود فيه إفراط وفيه تفريط، فيه غلو وفيه جفاء، أما علو الهمة فإنه لا يعرف الإفراط أبداً، فلا يوصف صاحب الهمة بأنه مفرط في آماله وفي طموحاته.

عالي الهمة إذا كان يستوفي شروط وحدود وقواعد علو الهمة، فإنه لا يوصف بالإفراط، بل دائماً همته وثابة، لا يقنع أبداً بشيء، ولا تقف همته عند حد، وشرط ذلك أن تكون همته مبنية على معرفته قدر نفسه، مبنية على سعيه حسب إمكانه في تحصيل ما يحب وتجنب ما يكره، وإن لم توجد هذه الشروط فليس هذا رجاء ولا علو همة، إنما هو غرور أو إغراق في أحلام اليقظة، وأحلام اليقظة في حد ذاتها ليست عيباً، لو أن إنساناً يشرد ذهنه في حالة اليقظة ويمني نفسه أو يؤمل في أن ينهض بنفسه في طلب العلم أو في عبادة أو في جهاد أو في دعوة أو في الصعود إلى الجنة، ويقول: سأفعل كذا وأخاطب كذا، وأحفظ القرآن ثم بعد ذلك أدرس كذا أو أرحل إلى كذا؛ فإذا كانت هذه الأحلام تعطيه شحنة وتجعله ينهض إلى هذه الآمال، فهذا بلا شك شيء محمود وليس مذموماً.

أما أحلام اليقظة التي لا يترتب عليها عمل، فهي مجرد استغراق للوقت في هذه الأماني والاغترارات، وهي مذمومة، كحال ذلك الرجل الذي جاء وصفه في بعض الكتب، وحكاها ابن قتيبة في عيون الأخبار، حكي أن ناسكاً كان له عسل وسمن في جرة، ففكر يوماً، أو بتعبيرنا الحديث نقول: استغرقته أحلام اليقظة، وكانت الجرة معلقة فوقه وهو جالس فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشتري خمس أعنز، فأولدهن في كل سنة مرتين، ويبلغ النتاج في سنتين مائتين، وأبتاع بكل أربع بقرة، وأصيب بذراً فأزرع، وينمو المال الذي في يدي، فأتخذ المساكن والعبيد والإماء والأهل، ويولد لي ابن فأسميه كذا، وآخذه بالأدب، فإن هو عصاني ضربت بعصاي رأسه وكانت في يده عصا.

فحكى -من شدة الاستغراق- حركة الضرب لهذا الابن، فرفعها حاكياً للضرب فأصابت الجرة فانكسرت، وانصب العسل والسمن على رأسه.

فهذه من صور الاستغراق في الأحلام والأماني، وهكذا أغلب وقته يقضيه في هذه الأماني، دون أن يسعى ودون أن يكون عنده الطاقة التي يندفع بها في سبيل تحقيق أمانيه.

فإذا كان الإنسان مستوفياً لشروط الثقة بالله سبحانه وتعالى، ثم الثقة في نفسه ومعرفة قدر نفسه، وأوتي ما هو من مؤهلات علو الهمة، فهذا لا يوصف بالإفراط أبداً.

إذاً: ليس في علو الهمة إفراط في الحقيقة؛ لأن الهمم العالية طموحة وثابة لا تعرف الحدود، دائمة الترقي والصعود، لا تعرف الدعة والسكون.

يقول الشاعر: فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا أي كن رجلاً رجله على الأرض، أما همته فهامتها عند النجوم في الثريا، ليس هذا فحسب، بل إن المؤمن العالي الهمة يريد ما هو أعلى من الثريا، ما هو فوق سبع سماوات، إنها الجنة، بل هو يطمح إلى أعلى ما في الجنة وهو الفردوس الأعلى، وهذا هو الذي أدبنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبه منا، فقال: (إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس الذي هو أعلى الجنة، وسقفه عرش الرحمن) وهو أوسط الجنة أيضاً.

مثال ذلك ما قاله عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لـ دكين لما جاءه، وقد كان عمر بن عبد العزيز قبل أن يلي الخلافة وعده بأن يعطيه صلة، ودكين كان شاعراً، فلما ولي الخلافة جاءه دكين يطلب هذه الصلة، فبين له أنه لا أمل في أن يفعل معه ما كان يفعله من قبل، فقال له: يا دكين! لن أجالسك من أجل أن تمدحني بالشعر وأعطيك المال مقابله قط، ثم قال له: يا دكين! إن لي نفساً تواقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة.

<<  <  ج: ص:  >  >>