[تقسيم التوحيد إلى توحيد ربوبية وألوهية]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الأصل الثالث: أقسام التوحيد.
إن التوحيد قسمان: القسم الأول: توحيد الربوبية والخالقية والرازقية ونحوها.
ومعناه: أن الله وحده هو الخالق للعالم، وهو الرب لهم والرازق لهم، وهذا لا ينكره المشركون، ولا يجعلون لله فيه شريكاً، بل هم مقرون به، كما سيأتي في الأصل الرابع.
والقسم الثاني: توحيد العبادة ومعناه: إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات الآتي بيانها.
فهذا هو الذي جعلوا لله فيه الشركاء، ولفظ (الشريك) يشعر بالإقرار بالله تعالى.
فالرسل عليهم السلام بعثوا لتقرير الأول، ودعاء المشركين إلى الثاني].
بين المصنف رحمه الله تعالى أن التوحيد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الإقرار بوجود الله، وتوحيده في ربوبيته وأسمائه وصفاته، فتوحده سبحانه في أفعاله، التي هي: الخلق والرزق والإماتة والإحياء وإنزال المطر، وتسبيب الأسباب، كل هذه أفعاله سبحانه، فتعتقد أن الله هو الخالق الرازق المالك المحيي المميت مدبر الأمور، مصرف الأمور، مسبب الأسباب، منزل المطر، وتعتقد بأن له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهذا ما يسمى بالتوحيد العلمي أو التوحيد الخبري؛ لأن الله أخبر بذلك.
وأما توحيد العبادة، فهو أن توحد الله في أفعالك أنت أيها العبد! فتتقرب بأفعالك إلى الله عزوجل: بصلاتك وصومك وزكاتك وحجك وبرك لوالديك وصلتك لأرحامك وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر وجهادك في سبيل الله، فتوحد الله فيها بأن تصرفها لله تعالى، وهذه الأفعال مقيدة بالشرع، فالعبادة لا تصح ولا تكون عبادة إلا بشرطين: الشرط الأول: أن تكون خالصة لله عز وجل، مراداً بها وجه الله والدار الآخرة.
الشرط الثاني: أن تكون هذه العبادة موافقة للشرع، أي: جاء بها الإسلام، وشرعها الله في كتابه أو شرعها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، فهذه العبادات توحد الله فيها، بمعنى: أنك تصرفها لله دون غيره، فتصلي لله لا لغيره، وتصوم لله لا لغيره، وتزكي لله لا لغيره، وتحب لله لا لغيره، وهكذا.
وعلى هذا فإن العلماء السابقين: كـ شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهم قسموا التوحيد إلى قسمين: الأول: توحيد الربوبية، ويسمى: التوحيد العلمي الخبري، وهو: الإيمان بوجود الله، وتوحيده في أفعاله وربوبيته وأسمائه وصفاته، وهذا يشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
لكن لما كثر النزاع وأثيرت الشبه حول الأسماء والصفات، جعل العلماء توحيد الأسماء والصفات قسماً ثالثاً، فقسموها إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية، وإلا فالأصل أن توحيد الأسماء والصفات داخل في توحيد الربوبية، فهما توحيد واحد، فالإيمان بوجود الله، والإيمان بأنه هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، والإيمان بأسمائه وصفاته توحيد واحد.
الثاني: توحيد الألوهية وهو: أن توحد الله بأفعالك أنت أيها العبد! ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعالى: الأصل الثالث: أن التوحيد قسمان: القسم الأول: توحيد الربوبية والخالقية والرازقية ونحوها.
فقوله: (توحيد الربوبية) أي: أن توحد الله بأفعال الرب، وأفعال الرب: هي الخلق والرزق وقوله: (والخالقية) أي: أن تعتقد أن الله هو الخالق، كما قال سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:٣].
وقوله: (الرازقية) أي: أن تعتقد أن الله هو الرازق، ونحوها من أفعال العباد، كالإماتة والإحياء، ويدخل في ذلك أيضاً الإيمان بأسماء الله وصفاته، وأسماء الله معروفة: كالعليم والسميع والبصير والخبير، وصفات الله: كالعلم والقدرة، والسمع والبصر، وأفعال الله هي صفات الله: كالخلق والرزق والإماتة والإحياء، وقد فسره المؤلف رحمه الله فقال: ومعناه: أن الله وحده هو الخالق للعالم، وهو الرب لهم والرازق لهم، وهذا لا ينكره المشركون، ولا يجعلون لله فيه شريكاً، بل هم يقرون به كما سيأتي في الأصل الرابع.
يعني: أن هذا التوحيد لا ينكره المشركون، بل يقرون به؛ لأن الله فطرهم على ذلك، والآيات في هذا كثيرة تدل على أنهم يقرون بهذا النوع، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧].
وقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:٦١].
وقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:٦٣].
وقال سبحانه: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:٨٤ - ٨٩].
وقال سبحانه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:٣١].
إذاً: فهم مقرون بهذا التوحيد؛ لأنه أمر فطري فطر الله عليه طوائفه جميعاً، إلا من شذ ففسدت فطرتهم، وعميت بصيرتهم، فأشركوا في توحيد الربوبية، مثل: الدهريين الذين قالوا: إن هذا العالم ليس له مدبر، وإنما يسير بنفسه ويدبر نفسه، وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:٢٤] ومثلهم: الشيوعيون الملاحدة الذين يقولون: لا إله والحياة مادة، ومثلهم: الطبائعيون الذين يقولون: إن الطبيعة هي ذات الأشياء، فالطبيعة هي الخالقة لذات الأرض، أي: هي التي خلقت الأرض، وذات السماء خلقت السماء، وذات النبات خلقت النبات، وكذلك من يقول بالصدفة، وأن هذا العالم وجد صدفة، فهؤلاء شذوا عن المجموعة البشرية، وإلا فإن طوائف بني آدم كلهم مطبقون على الإقرار بهذا التوحيد والاعتراف به، وليس في هذا التوحيد نزاع بين الرسل وبين الأمم، ولهذا أخبر الله عن قوم صالح الذين تمالئوا على قتل نبي الله صالح، أنهم يكفرون بالله، وأخبر تعالى أنهم تمالئوا فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ * وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل:٤٥ - ٤٩] تقاسموا بالله يريدون قتل نبي الله، فهم يقرون بالله ولم ينكروا وجوده، وهم مع كفرهم مقرون بهذا التوحيد، كذلك قوم نوح وقوم هود، وقوم إبراهيم وقوم موسى وقوم عيسى وكفار قريش في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم مقرون بهذا التوحيد، ولهذا قال المؤلف: وهذا لا ينكره المشركون، ولا يجعلون لله فيه شريكاً، بل هم يقرون به.
القسم الثاني: فهو توحيد العبادة، والعبادة معناها: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
فالعبادة: كل ما أمر الله به، وكل ما نهى الله عنه، فالذي أمر الله به يفعله المسلم تعبداً لله، سواء كان أمر إيجاب أو أمر استحباب، وكل ما نهى الله عنه فإن المسلم يجتنبه، سواء كان نهي تحريم أو نهي تنزيه، فهذه هي العبادة: الأوامر والنواهي، أي: تفعل الأوامر وتترك النواهي.
وقال بعضهم: العبادة هي: كل ما أمر به شرعاً من غير اضطراب عرفي ولا اقتضاء عقلي، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: العبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
أي: كل ما يحبه الله قولاً أو عملاً أو اعتقاداً أو نية ظاهراً أو باطناً، فتصرفها لله وتفردها له؛ بأن تؤدي هذه العبادة ولا تجعل مع الله شريكاً، فتصلي لله ولا تصلي لغيره، وتزكي لله ولا تزكي لغيره، وتصوم لله ولا تصوم لغيره، وتدعو الله ولا تدعو غيره، وتذبح لله ولا تذبح لغيره، وتطوف ببيت الله تقرباً إلى الله ولا تطوف بغير بيت الله، وتنذر لله ولا تنذر لغيره، وهذا النوع هو الذي وقعت فيه الخصومة بين الأنبياء وبين الأمم، وهو الذي فيه المعركة والقتال والنزاع بين الرسل وبين أممهم، فالنزاع والعداوات والحروب الطاحنة بين الأنبياء وبين الأمم بسبب هذا التوحيد، فالرسل تأمرهم بأن يخلصوا لله العبادة وهم ينازعون في ذلك، فيقولون: نريد أن نعبد الله ونعبد غيره، والرسل تقول: لا تعبدوا إلا الله، ولا تذبحوا إلا لله، ولا تنذروا إلا لله، ولا تدعو إلا الله، وهم يقولون: بل نذبح لله ونذبح لغير الله، ندعو الله وندعو غير الله، حتى قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اعبد إلهنا سنة ونعبد إلهك سنة، وهذا صلح بيننا وبينك! فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *