للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إبطال دعوى الإجماع السكوتي]

قال المؤلف رحمه الله: [ومن هنا يعلم اختلال ما استمر عند أئمة الاستدلال من قولهم في بعض ما يستدلون عليه: إنه وقع ولم ينكر فكان إجماعاً.

ووجه اختلاله: أن قولهم: (ولم ينكر) رجم بالغيب؛ فإنه قد يكون أنكرته قلوب كثيرة تعذر عليها الإنكار باليد واللسان، وأنت تشاهد في زمانك: أنه كم من أمر يقع لا تنكره بلسانك ولا بيدك وأنت منكر له بقلبك، ويقول الجاهل إذا رآك تشاهده: سكت فلان عن الإنكار، ويقوله إما لائماً أو متأسياً بسكوته، فالسكوت لا يستدل به عارف، وكذا يعلم اختلال قولهم في الاستدلال: فعل فلان كذا وسكت الباقون فكان إجماعاً مختلاً من جهتين: الأولى: دعوى أن سكوت الباقين تقرير لفعل فلان، لما عرفت من عدم دلالة السكوت على التقرير.

الثانية: قولهم: فكان إجماعاً؛ فإن الإجماع اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والساكت لا ينسب إليه وفاق ولا خلاف حتى يعرب عنه لسانه.

قال بعض الملوك -وقد أثنى الحاضرون على شخص من عماله وفيهم رجل ساكت-: لما لا تقول كما يقولون؟ فقال: إن تكلمت خالفتهم.

فما كل سكوت رضا، فإن هذه منكرات أسسها من بيده السيف والسنان، ودماء العباد وأموالهم تحت لسانه وقلمه، وأعراضهم تحت قوله وكلمه، فكيف يقوى فرد من الأفراد على دفعه عما أراد؟!].

المؤلف رحمه الله يقول: وبهذا تعلم اختلال ما استمر عند أئمة الاستدلال من قولهم في بعض ما يستدلون عليه: إنه وقع ولم ينكر فكان إجماعاً، فهذا يسمى الإجماع السكوتي، وفيه خلاف في صحته وحجيته، فمن العلماء من صححه واحتج به، ومنهم من منعه، فالمؤلف يقرر أن الإجماع السكوتي ليس بصحيح؛ لأن الساكت لا ينسب له قول حتى يتكلم.

ثم بين وجه بطلانه، فقال: ووجه اختلاله أن قولهم: (ولم ينكر) رجم بالغيب.

قولهم: أنه وقع ولم ينكر، فالإنكار يكون بالقلب، فهل اطلعتم على قلبه؟ فإنه قد يكون أنكر بالقلب، فيقول المؤلف: فإنه قد يكون أنكرته قلوب كثيرة تعذر عليها الإنكار باليد واللسان.

يعني: أنه يخاف من ضرر يصيبه في بدنه أو ماله أو أهله فيكون معذوراً.

ثم يقول: وأنت تشاهد بنفسك وفي زمانك أنه كم من أمر يقع لا تنكره بلسانك ولا بيدك لعجزك عنه، وأنت منكر له بقلبك.

ويقول الجاهل إذا رآك تشاهده: سكت فلان عن الإنكار بقوله، لماذا يقول: سكت فلان عن الإنكار، أو متأسياً بسكوته، فعندما يقول: سكت فلان عن الإنكار ثم يلومه يقول: لماذا لم يتكلم؟ أو يريد أن يقتدي به ويتأسى بالسكوت، فالسكوت لا يستدل به على رضا العالم، وكون العالم يسكت هذا ليس بدليل.

وكذلك يعلم اختلال قولهم في الاستدلال: فعل فلان كذا وسكت الباقون فكان إجماعاً.

يقول: هذا باطل من وجهين: الأول: دعوى أن سكوت الباقين تقرير لفعل فلان، لما عرفت من عدم دلالة السكوت على التقرير؛ لأنه قد يكون منكراً.

الثانية: قولهم: (فكان إجماعاً)، فالإجماع لا يفعله واحد ويسكت الباقون، فيقول: الإجماع تعريفه هو: اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور.

فهذا هو الإجماع، وليس أن يفعله واحد ويسكت الباقون، والساكت لا ينسب إليه وفاق ولا خلاف حتى يعرب عنه لسانه، قال بعض الملوك -وقد أثنى الحاضرون على شخص من عماله وفيهم رجل ساكت-: ما لك لا تقول كما يقولون؟ فقال: إن تكلمت خالفتهم.

يقول المؤلف: فما كل سكوت رضا، فما كل من سكت يقال: إنه راضٍ؛ فإن هذه المنكرات -مثل المنكرات التي تكون حول القبور والمكوس والمقامات التي في الحرم الشريف- أسسها جبابرة ظلمة بيدهم السيف فلا يستطيع أحد أن ينكر عليهم، فالذي ينكر يقطعون رقبته؛ فلذلك سكتوا، فسكوتهم لا يدل على الرضا بل لعجزهم، ولهذا قال: فإن هذه المنكرات أسسها من بيده السيف والسنان، ودماء العباد وأموالهم تحت لسانه وقلمه؛ لأنهم ظلمة، إذا كتب شيئاً أو تكلم إلى أحد أوقع العقوبة في من يريد، وأعراضهم تحت قوله وكلمته، فكيف يقوى فرد من الأفراد على دفعه عما أراد؟! فدل على أن سكوتهم لعذر.

<<  <  ج: ص:  >  >>