للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إقرار المشركين بأن الله هو خالقهم]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الأصل الرابع: إن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم مقرون أن الله خالقهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧] وأنه هو الذي خلق السموات والأرض {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:٩].

وأنه الرزاق الذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وأنه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وأنه الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:٣١].

{قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:٨٤ - ٨٩].

وهذا فرعون مع غلوه في كفره، ودعواه أقبح دعوى، ونطقه بالكلمة الشنعاء، يقول الله تعالى في حقه حاكياً عن موسى عليه السلام {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:١٠٢].

وقال إبليس: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:١٦].

وقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:٣٩].

وقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} [الحجر:٣٦] وكل مشرك مقر بأن الله خالقه، وخالق السموات والأرض، وربهن ورب ما فيهما ورازقهم، ولهذا احتج عليهم الرسل بقولهم: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل:١٧].

وبقولهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:٧٣] والمشركون مقرون بذلك لا ينكرونه].

هذا هو الأصل الرابع من الأصول التي ذكرها المؤلف، وهو: أن المشركين مقرون بأن الله خالق كل شيء، وقد سبق في الأصل الثالث أن التوحيد قسمان: توحيد الربوبية، وهذا أقر به المشركون.

وتوحيد الألوهية، وهذا أنكره المشركون، فالمؤلف رحمه الله تعالى جعله أصلاً مستقلاً بذاته، وهو جزء من الأصل الثالث؛ لأن الأصل الثالث قال فيه: إن التوحيد قسمان: توحيد الربوبية، وهذا أقر به المشركون، وتوحيد الألوهية، وهذا أنكره المشركون، والأصل الرابع قال فيه: إن المشركين مقرون بأن الله خالقهم، ومقرون بأن الله خالق السموات والأرض، وبأنه هو الرازق، وبأنه المحيي، وبأنه المدبر، وبأنه مصرف الأمور، فهم مقرون بأفعال الرب كلها، ومن ذلك أن الله خلقهم، فهذا كله أقر به المشركون، وهذا أمر معلوم من النصوص ولا إشكال فيه.

قوله: (إن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم مقرون أن الله خالقهم)، ثم استشهد بالآية: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧] وأخبر أنهم مقرون بأنه خلق السموات والأرض، فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:٩] ومقرون بأن الله هو الرازق، ومقرون بأن الله هو الرزاق الذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وأنه هو الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وأنه الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة، فكل هذا واضح في الآيات الكريمة، ثم استشهد بالآيات: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} [يونس:٣١]

و

الجواب

{ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:٣١] فما دمتم تعترفون بهذه الأمور، أفلا تتقون الله وتعبدونه وتصرفون له العبادة، وتتقون ناره وغضبه وسخطه بترك الشرك، وقد احتج عليهم بذلك، قال الله في الآية الأخرى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:٨٤ - ٨٥] أي: ما دمتم معترفين بذلك، فتذكروا واعتبروا وأخلصوا العبادة له {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:٨٦ - ٨٧] وهذا اعتراف، {قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:٨٧] أي: أفلا تتقون غضب الله وسخطه وناره، فتحذرون الشرك وتخلصون له العبادة.

{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:٨٨ - ٨٩] وهذا إقرار منهم {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:٨٩] أي: كيف تصرفون؟ وأين ذهبت عقولكم؟ فعبدتم معه غيره، وأنتم معترفون بذلك.

وقوله: (وهذا فرعون مع غلوه في كفره، ودعواه أقبح دعوى، ونطقه بالكلمة الشنعاء -التي ذكر الله عنه أنه قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨]- يقول الله في حقه حاكياً عن موسى عليه الصلاة والسلام: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:١٠٢]) أي: أن فرعون مع غلوه في كفره، ومع أنه إمام في الكفر -كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:٤١] أي: أن هناك أئمة في الكفر، وأئمة لأهل النار، ومنهم فرعون، وهناك أئمة في التوحيد، فالأنبياء أئمة عليهم الصلاة والسلام في التوحيد، وأئمة للمؤمنين، وفرعون من أئمة الكفر، نعوذ بالله من ذلك- ادعى أقبح دعوى، ونطق بالكلمة الشنعاء، وادعى الربوبية والألوهية، وقد أخبر الله عن موسى أنه قال له: {لَقَدْ عَلِمْتَ} [الإسراء:١٠٢] والعلم بمعنى: اليقين، أي: أن فرعون يعلم ويعتقد في قرارة نفسه: أن الله رب السموات والأرض: {لَقَدْ عَلِمْتَ} [الإسراء:١٠٢] وأنه ليس عنده شك، بل هو عالم ومتيقن، لكنه جحد الحق، قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:١٤] أي: جحدوا بها وقلوبهم متيقنة.

وهنا أخبر الله عن موسى أنه قال: {لَقَدْ عَلِمْتَ} [الإسراء:١٠٢] ولم يقل: لقد شككت؛ لأن فرعون عنده علم بهذا، ومع ذلك ما نفعه هذا العلم وهذا الإقرار، لأنه عاند وكفر، ولم يتبع وينقاد لشرع الله ولدينه، بل صار كافراً، وإقراره الذي يقوله في توحيد الربوبية لم ينفعه؛ لأنه لا بد من الانقياد والاتباع والتوحيد في العبادة، وكذلك إبليس، فإنه إمام كل كافر، وإمام كل شر وفتنة، وإمام كل قائد إلى النار، وهو معترف ومقر بوجود الله، بل يوحد الله في ربوبيته، ومع ذلك فهو إمام الكفر وإمام الضلال، ولا يكفيه اعترافه بالربوبية لله تعالى، قال الله تعالى عن إبليس: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:١٦] فقد أثبت ربوبية الله للعالمين، لكن لا ينفع هذا، ولا يكفيه لإخراجه من الكفر، بل حتى يعبد الله ويخلص له العبادة، وقال الله عنه في آية أخرى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:٣٩] فالشاهد: ربي، حيث أنه اعترف بربوبية الله، وقال في الآية الأخرى: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} [الحجر:٣٦] وهنا أيضاً اعتراف منه بربوبية الله تعالى.

قوله: (وكل مشرك مقر بأن الله خالقه، وخالق السموات والأرض وربهن ورب ما فيهما ورازقهم) أي: أن كل مشرك مؤمن بهذا.

وقوله: (ولهذا احتج عليهم الرسل بقولهم: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل:١٧]) أي: ألا تعتبرون، فالذي يخلق هو الذي يستحق العبادة، والذي لا يخلق لا يستحق العبادة.

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:٧٣] أي: أن كل الذين تدعون من دون الله، لو اجتمعوا جميعاً ما استطاعوا أن يخلقوا ذبابة، ومع ذلك وقعوا في خطيئة الشرك في العبادة، لذلك يقول: (والمشركون مقرون بذلك لا ينكرونه).

<<  <  ج: ص:  >  >>