للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تفنيد شبهات القبوريين في الاستغاثة]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قلت: الاستغاثة قد ثبتت في الأحاديث، فإنه قد صح أن العباد يوم القيامة يستغيثون بآدم أبي البشر، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، وينتهون إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد اعتذار كل واحد من الأنبياء، فهذا دليل على أن الاستغاثة بغير الله ليست بمنكر.

قلت: هذا تلبيس؛ فإن الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء فيما يقدرون عليه لا ينكرها أحد، وقد قال الله تعالى في قصة موسى مع الإسرائيلي والقبطي: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:١٥]، وإنما الكلام في استغاثة القبوريين وغيرهم بأوليائهم؛ وطلبهم منهم أموراً لا يقدر عليها إلا الله تعالى من عافية المريض غيرها.

بل أعجب من هذا: أن القبوريين وغيرهم من الأحياء من أتباع من يعتقدون فيه قد يجعلون له حصة من الولد إن عاش، ويشترون منه الحمل في بطن أمه ليعيش، ويأتون بمنكرات ما بلغ إليها المشركون الأولون.

ولقد أخبرني بعض من يتولى قبض ما ينذر القبوريون لبعض أهل القبور أنه جاء إنسان بدراهم وحلية نسائه وقال: هذه لسيده فلان -يريد صاحب القبر- نصف مهر ابنتي؛ لأني زوجتها وكنت ملّكت نصفها فلاناً: يريد صاحب القبر.

وهذه النذور بالأموال وجعل قسط للقبر، كما يجعلون شيئاً من الزرع يسمونه (تلماً) في بعض الجهات اليمنية.

وهذا شيء ما بلغ إليه عباد الأصنام! وهو داخل تحت قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [النحل:٥٦] بلا شك ولا ريب.

نعم استغاثة العباد يوم القيامة وطلبهم من الأنبياء إنما يدعون الله تعالى ليفصل بين العباد بالحساب؛ حتى يريحهم من هول الموقف، وهذا لا شك في جوازه، أعني طلب الدعاء لله تعالى من بعض عباده لبعض، بل قال صلى الله عليه وسلم لـ عمر رضي الله عنه لما خرج معتمراً: (لا تنسنا يا أخي من دعائك)، وأمرنا سبحانه أن ندعو للمؤمنين ونستغفر لهم، يعني: قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:١٠]، وقد قالت أم سليم رضي الله عنها: (يا رسول الله خادمك أنس! ادع الله له)، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يطلبون الدعاء منه صلى الله عليه وسلم وهو حي، وهذا أمر متفق على جوازه.

والكلام في طلب القبوريين من الأموات أو من الأحياء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً أن يشفوا مرضاهم، ويردوا غائبهم، وينفسوا عن حبلاهم، وأن يسقوا زرعهم، ويدروا ضروع مواشيهم، ويحفظوها من العين، ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:١٩٧]، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف:١٩٤]، فكيف يطلب الإنسان من الجماد، أو من حي الجماد خير منه؟! لأنه لا تكليف عليه].

هذه من سلسلة الشبهات والأسئلة التي يوردها المؤلف مما ترد على ألسنة القبوريين، فيقول رحمه الله: فإن قلت: إن الاستغاثة قد ثبتت في الأحاديث، فإنه قد صح أن العباد يوم القيامة يستغيثون بآدم أبي البشر، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، وينتهون إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد اعتذار كل واحد من الأنبياء، فهذا دليل على أن الاستغاثة بغير الله ليست بمنكر.

هذه شبهة يوردها بعض القبوريين، فيقول قائلهم: أنت تقول: إن الاستغاثة شرك، وأنا عندي دليل على أن الاستغاثة ليست بشرك.

فإن قلت له: وما دليلك؟ يقول لك: ثبت في الصحيحين وغيرهما: (أن الناس يوم القيامة إذا دنت الشمس من رءوسهم وزيد في حرارتها استغاثوا بالأنبياء، فيأتون أولاً آدم فيقولون له: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا إلى ربك، فيعتذر قائلاً: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني أكلت من الشجرة التي نهاني الله عنها، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا -في لفظ: إلى إبراهيم بعد آدم، وفي اللفظ الآخر أنهم يذهبون بعد آدم إلى نوح- إلى نوح، ويأتون نوحاً فيقولون: يا نوح أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، فيعتذر ويقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة أغرقتهم بسببها، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيعتذر لهم إبراهيم بكذباته الثلاث، وهي في حقيقتها تورية، ثم يحيلهم إلى موسى، فيقول لهم: اذهبوا إلى موسى فإنه كليم الله، فيأتون موسى فيعتذر لهم ويقول إنه قتل نفساً بغير حق، ثم يقول لهم: اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيعتذر عيسى لهم ويقول: إنه اتخذ وأمه إلهين من دون الله، ويقول لهم: اذهبوا إلى محمد؛ فإنه خاتم النبيين، فيشفع نبينا عليه الصلاة والسلام فيهم، ويقول: أنا لها أنا لها).

فهذا الحديث يستدل به القبوريون ويقولون: هذا دليل على أن الاستغاثة بغير الله ليست منكراً؛ لأن هؤلاء الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى، فليست الاستغاثة منكراً،

و

الجواب

قال المؤلف: قلت هذا تلبيس؛ فإن الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء فيما يقدرون عليه لا ينكرها أحد، أي: هذا تلبيس منكم أيها المشركون! لأن الناس حينما يستغيثون يوم القيامة بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى هذا وهم أحياء، والاستغاثة بالحي لا شيء فيها إذا كان يقدر على التنفيذ، كإنسان غريق في البحر وعنده سباح فقال للسباح: أغثني، والسباح عنده قدرة على إنقاذه فأنقذه، فمثل هذا لا شيء فيه، وكذا لو أن إنساناً عليه ديون فاستغاث بمن يعينه على قضاء دينه فأغاثه، فلا بأس في ذلك، وعلى هذا فقس، وإنما الممنوع هو الاستغاثة بالميت؛ لانتهاء الأمل فيه، وكذا تمنع الاستغاثة بالغائب الذي لا يسمع، أو الاستغاثة بالحي في شيء لا يقدر عليه إلا الله، فهذا وأمثاله من الشرك.

فالمؤلف يقول لهم: هذا تلبيس منكر؛ لأن هذا الدليل الذي ذكرتموه إنما هو دليل على أن الاستغاثة بالحي الحاضر جائزة، والذي ننكره عليكم هو الاستغاثة بالأموات، أو بالغائبين، أو بالأحياء الذين لا يقدرون.

قال المؤلف: ومن الأدلة على جواز الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه قصة موسى مع الإسرائيلي والقبطي.

وذلك أن موسى خرج -قبل النبوة- في مصر فوجد رجلين يقتتلان كما قص الله علينا ذلك في سورة القصص، فقال سبحانه: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:١٥] أي: واحد من بني إسرائيل من جماعة موسى والآخر قبطي، فاستغاث الإسرائيلي بموسى؛ لأنه من جماعته، أي: من بني إسرائيل، ومعنى استغاث به، أنه قال له أغثني، فأغاثه موسى، فضرب خصمه ضربة فقضى عليه، أي: قتله، فلما علم فرعون وملؤه صاروا يطلبونه، وجاء رجل من أقصى المدينة ينصحه قائلاً: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:٢٠] فخرج من مصر.

الشاهد من هذا: أن موسى أغاث الإسرائيلي، لكن إنما استغاثه الإسرائيلي لأنه حي حاضر، فأغاثه موسى.

وكان هذا قبل النبوة ثم تاب الله عليه، وبعد ذلك أرسله الله تعالى، فهذا من الأدلة على جواز الاستغاثة بالحي الحاضر القادر، وقد قال الله في قصة موسى مع الإسرائيلي والقبطي: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:١٥].

يقول المؤلف: وإنما الكلام في استغاثة القبوريين وغيرهم بأوليائهم، فهذا هو الشرك، كأن يقول: يا فلان أغثني، أو يا فلان رد غائبي، والمستغاث به ميت، ويقول: أنا في حسبك وجوارك فلا تخيب رجائي، اشفع لي عند الله، أنقذني من النار! أدخلني الجنة! ارزقني! انصرني على عدوي! فهذا هو الشرك بعينه؛ لأنه -أي: المدعو ميت- ليست بيده أسباب الإجابة، وكذلك الغائب والحي الحاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله، ولهذا قال المؤلف: وإنما الكلام في استغاثة القبوريين وغيرهم بأوليائهم، وطلبهم منهم أموراً لا يقدر عليها إلا الله من عافية مريض ونحوه.

بل الأعجب من هذا: أن القبوريين وغيرهم من الأحياء من أتباعهم ممن يعتقدون فيهم يجعلون لوليهم المزعوم حصة من الولد إن عاش! ويشترون منه الحمل في بطن أمه ليعيش! وهذا من شركهم.

ومعنى: يجعل له حصة من الولد أن يقول مخاطباً صاحب القبر: إن عاش هذا الولد فلك نصفه، أي: نصف كسبه، أو يقول مثلاً في بنته: إن عاشت هذه البنت حتى تتزوج فلك نصف المهر، أي: لصاحب القبر، ويشترون منه الحمل في بطن أمه ليعيش، أو في بطن الدابة أو غيرها، ويشترون من صاحب القبر الحب بكذا ويعطونه منه؛ حتى لا تصيبه عاهة، فيقول المؤلف في هذا ومثله: إنه شرك ما بلغ إليه المشركون الأولون.

قوله رحمه الله: ولقد أخبرني بعض من يتولى قبض ما ينذر القبوريون لبعض أهل القبور: أنه جاء إنسان بدراهم وحلية نسائه وقال: هذه للسيد فلان -يريد صاحب القبر- نصف مهر ابنتي، أي: لما زوج ابنته أخذ نصف المهر وأعطاه للسيد صاحب القبر، ونصف المهر جعله لها، وقال -أي: الناذر لصاحب القبر- إني زوجتها وكنت قد ملكت نصفها سيد فلان، أي: أنه ملك نصفها لصاحب القبر، فلما تزوجت أعطى نصف المهر لصاحب القبر.

يقول المؤلف: وهذه النذور بالأموال، وجعل قسط للقبر كما يجعلون شيئاً من الزرع يسمونه تلماً في بعض الجهات اليمنية، وهذا شيء ما بلغ إليه عباد الأصنام! وهو داخل تحت قول الله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [النحل:٥٦] بلا شك ولا ريب، فإن هذا جاء في القرآن، أي: جاء أن المشركين يجعلون نصيباً من الزرع وال

<<  <  ج: ص:  >  >>