[علاقة توحيد الربوبية بتوحيد الألوهية]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأنهم يقربونهم إلى الله زلفى، وأنهم يشفعون لهم عند الله] هذا هو الصواب، وهو أنهم إنما عبدوهم لأنهم يعتقدون أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، وأنهم يشفعون لهم عند الله، وهذا هو المعلوم عند كثير من المشركين، وقد يوجد بعض المشركين من يعتقد النفع والضر في غير الله، فيكون مشركاً في الربوبية، لكن هذا قليل، وإنما الغالب على المشركين أنهم يعتقدون أن الضر والنفع بيد الله، وشركهم إنما هو في العبادة، فيعتقدون أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، ويشفعون لهم عند الله، ولهذا قال المؤلف: فنحروا لهم النحائر، وطافوا بهم، ونذروا النذور عليهم، وقاموا متذللين متواضعين في خدمتهم، وسجدوا لهم، ومع هذا كله فهم مقرون لله بالربوبية، وأنه الخالق، ولكنهم لما أشركوا في عبادته جعلهم مشركين، ولم يعتد بإقرارهم هذا) بمعنى: أنه لا ينفهم إقرارهم بتوحيد الربوبية مع شركهم في العبادة.
(لأنه نافاه فعله) يعني: أن إقرارهم بتوحيد الربوبية قد نافاه شركهم في العبادة، فلم ينفعهم الإقرار بتوحيد الربوبية.
وقوله: (فمن شأن من أقر لله بتوحيد الربوبية أن يفرده بتوحيد العبادة) أي: ينبغي لمن أقر بتوحيد الربوبية أن يعبد هذا الرب الذي أقر بأنه الخالق الرازق المدبر المحيي الذي بيده النفع والضر، ولهذا قال الله تعالى محتجاً عليهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:٢١]، ثم جاء الدليل {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:٢١] أي: الله تعالى الذي خلقكم وخلق الذين من قبلكم هو المستحق للعبادة، فيحتج عليهم سبحانه وتعالى بإقرارهم بتوحيد الربوبية، يعني: كما أفردتموه بتوحيد الربوبية فأفردوه بالعبادة.
يقول المؤلف: (فإذا لم يفعل ذلك فالإقرار الأول باطل).
وهو توحيد الربوبية.
قوله: (وقد عرفوا في ذلك وهم طبقات النار).
أي: لما دخل المشركون النار اعترفوا بأن سبب خلودهم في النار هو شركهم في العبادة، واسمع قول الله عنهم حيث قالوا: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٩٧ - ٩٨] فأخبر الله أنهم يقولون ذلك وهم في طبقات النار، والأصل أن يقول: دركات النار؛ لأن النار دركات، وكل دركة سفلى أعظم عذاباً من الدركة التي أعلى منها.
وأما الجنة فهي طبقات ودرجات، وكل درجة عليا أعظم نعيماً من الدرجة التي تحتها.
قالوا وهم في دركات النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٩٧ - ٩٨] يقولونها للذين عبدوهم؛ لأن العابدين والمعبودين كلهم دخلوا النار، فلما كانوا في دركات النار صار بينهم محاورة، فاعترف الذين عبدوا الرؤساء والكبراء، فقالوا: لقد كنا في الدنيا في ضلال مبين، وأقسموا على ذلك فقالوا: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء:٩٧] ووجه ضلالهم: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٩٨]، فهم يخاطبون معبوديهم.
وما سووهم بأنهم يخلقون أو يرزقون أو يضرون أو ينفعون، وإنما سووهم بالمحبة والتعظيم والإجلال والدعاء والذبح والنذر، فلما سووهم بالمحبة والإجلال والتعظيم كانوا معهم في النار.
قوله: (مع أنهم لم يسووهم به من كل وجه، ولا جعلوهم خالقين ولا رازقين، لكنهم علموا وهم في قعر جهنم أن خلطهم الإقرار بذرة من ذرات الإشراك في توحيد العبادة صيرهم كمن سوى بين الأصنام وبين رب الأنام) يعني: كونهم أشركوا بالله في توحيد العبادة نقض إقرارهم بتوحيد الربوبية، وصيرهم كمن سوى بين الأصنام وبين رب الأنام رب العالمين.
قوله: (قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:١٠٦]).
فإقرارهم بالله هو توحيد ربوبية، وشركهم كان في توحيد العبادة، فجمعوا بين الأمرين: توحيد الربوبية، والشرك في العبادة، فلم ينفعهم توحيد الربوبية، ولهذا قال المؤلف: [أي: ما يقر أكثرهم في إقراره بالله، وبأنه خلقهم وخلق السماوات والأرض إلا وهم مشركون بعبادة الأوثان].