[بعض الأمثلة الدالة على سكوت العلماء عن المنكر]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولنضرب لك مثلاً من ذلك، وهي: هذه المكوس المسماة بالمجابي المعلوم من ضرورة الدين تحريمها، قد ملأت الديار والبقاع، وصارت أمراً مأنوساً لا يلج إنكارها إلى سمع من الأسماع، وقد امتدت أيدي المكاسين في أشرف البقاع: في مكة أم القرى، يقبضون من القاصدين لأداء فريضة الإسلام، ويلقون في البلد الحرام كل فعل حرام، وسكانها من فضلاء الأنام، والعلماء والحكام ساكتون عن الإنكار، معرضون عن الإيراد والإصدار، أفيكون السكوت دليلاً على حل أخذها وإحرازها؟ هذا لا يقوله من له أدنى إدراك.
بل أضرب لك مثلاً آخر: هذا حرم الله الذي هو أفضل بقاع الدنيا بالاتفاق وإجماع العلماء، أحدث فيه بعض ملوك الشراكسة الجهلة الضلال هذه المقامات الأربعة التي فرقت عبادة العباد، واشتملت على ما لا يحصيه إلا الله عز وجل من الفساد، وفرقت عبادة المسلمين، وصيرتهم كالملل المختلفة في الدين، بدعة قرت بها عين إبليس اللعين، وصيرت المسلمين ضحكة للشياطين، وقد سكت الناس عليها، ووفد علماء الآفاق والأبدال والأقطاب إليها، وشاهدها كل ذي عينين، وسمع بها كل ذي أذنين، أفهذا السكوت دليل على جوازها؟ هذا لا يقوله من له إلمام بشيء من المعارف، كذلك سكوتهم على هذه الأشياء الصادرة من القبوريين].
المؤلف رحمه الله يقول: إن هذه القبور التي انتشرت في البلدان، ويطوف حولها العامة، وينذرون لها، ويذبحون لها، ويعملون عندها الأعمال الشركية، فسكوت العلماء عليها ليس دليلاً على جوازها؛ لأن العالم قد يسكت لعجزه عن الإنكار.
وضرب المؤلف مثلين لمنكرين منتشرين في زمانه ولم ينكرهما العلماء مع أنهما حرام في الكتاب والسنة، وتحريمهما معلوم من الدين بالضرورة، ومع ذلك سكتوا، فكذلك سكوتهم عن كل ما يفعله القبوريون ليس دليلاً على حله وجوازه، بل لعجزهم.
المثال الأول: المكوس التي تجبى بغير حق، والمكوس: هي الضرائب، ومن ذلك ما يسمونه بالجمارك، فهذه الضرائب والمكوس التي تؤخذ على الحجاج قبل ثلاثمائة سنة في زمان المؤلف الصنعاني رحمه الله، يقول: إن الحجاج الذين يدخلون مكة تؤخذ عليهم الضرائب، وهذه الضرائب هي المكوس، وهي حرام، ومع ذلك سكت العلماء عليها، فليس سكوتهم دليلاً على أنها مباحة، بل المكوس محرمة بالكتاب والسنة، وحرمتها معلومة من الدين بالضرورة، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزانية التي زنت وتابت: (إنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت منه).
فجعل صاحب المكس أعظم من الزنا، ومع ذلك فسكوت العلماء لا يدل على جوازه.
المثال الثاني: المقامات التي كانت في المسجد الحرام في زمان المؤلف الصنعاني، فقد كان يوجد في المسجد الحرام أربع مقامات: المقام الحنفي، والمقام المالكي، والمقام الشافعي، والمقام الحنبلي، وكل مقام يؤمه إمام، وفي كل صلاة يصلي أربعة أئمة، فالإمام الحنفي يصلي وراءه الأحناف، والشافعي يصلي وراءه الشافعية، والمالكي يصلي وراءه المالكية، والحنبلي يصلي وراءه الحنابلة، وقد يصلون في وقت واحد أربع جماعات، يقول: وهذه بدعة قرت بها عين إبليس، وفرقت الأمة، وجعلت الناس كأنهم أربعة أديان، كيف يوجد في دين الإسلام أربعة أئمة في مسجد واحد، ويؤمون في وقت واحد؟ فهذه بدعة، ومع ذلك سكت العلماء عليها، وسكوت العلماء عليها ليس دليلاً على جوازها مع أنها بدعة، هذا على كلام المؤلف، لكن قد يقال: إن هناك من العلماء من تكلم عليها وبين حكمها وإن لم يعلمه الناس كلهم.
وكذلك العلماء ما سكتوا على ما يفعل عند القبور بل بينوا، ولا تزال المؤلفات، ولا يزال الخطباء ينكرون ما يفعله القبوريون في زمان المؤلف وقبله وبعده، وكذلك المكوس لا يزال العلماء يبينون أنها محرمة، وهذه المقامات كانت موجودة حتى تولى الملك عبد العزيز رحمه الله، فلما تولى الملك عبد العزيز رحمه الله أزال هذه المقامات الأربعة، وألغى كلمة الأئمة الأربعة، وجمع الناس في المسجد الحرام على إمام واحد يؤمهم، وهذه من الحسنات التي تحسب للملك عبد العزيز رحمه الله، وكان هذا بفتوى من العلماء أفتوا الملك رحمه الله بذلك وبينوا له أن هذه المقامات منكر، وأنه لا يجوز أن يكون هناك أئمة أربعة يؤمون في وقت واحد، فهذا منكر، فألغى الأئمة وجعل لهم إماماً واحداً، وجعل الدين واحداً، يصلي الناس خلف إمام واحد سواءً كان مالكياً أو شافعياً أو حنبلياً، وهذه من الحسنات التي تحسب للملك عبد العزيز رحمه الله، ولكن الصنعاني رحمه الله ما أدرك عهد الملك عبد العزيز، فهو يتكلم في زمانه عندما كانت هذه الأشياء موجودة، ولهذا قال المؤلف: فلنضرب لك مثلاً من ذلك وهي هذه المكوس المسماة بالمجابي، المعلوم في الدين بالضرورة حرمتها وقال: ملأت الديار والبقاع، وصارت أمراً مأنوساً لا يلج إنكارها -يعني: لا يدخل إنكارها- إلى سمع من الأسماع، وقد امتدت أيدي المكاسين -يعني: يأخذون الضرائب- في أشرف البقاع: في مكة أم القرى، فيقبضون من القاصدين لأداء فريضة الإسلام، ويلقون في البلد الحرام كل فعل حرام، وسكانها من أفضل الأنام.
ثم يقول: والعلماء والحكام ساكتون عن الإنكار.
هذا لم يعلمه المؤلف، فالعلماء بينوا لكن كونه ما انتشر أو كثير من الناس ما بلغه ليس دليلاً على أنهم لم ينكروا، بل قد أنكر العلماء في زمانه لكن لا يستطيعون إزالته، وهذا يحتاج إلى قوة من السلاطين وهم الذين يمنعون الناس من هذا، فالعلماء بأيديهم البيان والإيضاح، وقد يكون في بعض الأزمان أو في بعض الأمكنة أو في بعض الأوقات بعض العلماء لا يستطيع الإنكار باللسان؛ لأنه يهدد من قبل علماء السوء أو من قبل حكام السوء، فلو سكت فيكون معذوراً في هذه الحالة، وينكر بقلبه ويكون غيره قد أنكر.
قول المؤلف: معرضون عن الإيراد والإصدار أفيكون السكوت دليلاً على حل أخذها وإحرازها؟ هذا لا يقوله من له أدنى إدراك.
ثم ضرب المثل الثاني، فقال: هذا حرم الله الذي هو أفضل بقاع الدنيا بالاتفاق وإجماع العلماء، أحدث فيه بعض ملوك الشراكسة الجهلة الضلال هذه المقامات الأربعة التي فرقت عبادة العباد، واشتملت على ما لا يحصيه إلا الله من الفساد، وفرقت عبادة المسلمين، وصيرتهم كالملل المختلفة في الدين -كأنها أديان أربعة-، بدعة قرت بها عين إبليس اللعين، وصيرت المسلمين ضحكة للشياطين، وقد سكت الناس عليها، ووفد علماء الآفاق والأبدال والأقطاب إليها].
لعله يقصد بالأبدال الذين يخلف بعضهم بعضاً، كما جاء في بعض الأحاديث، والأقطاب: هم العلماء، وليس المراد بالأقطاب أقطاب الصوفية الذين يزعمون أنهم يتصرفون في الكون، أو الأبدال الذين عند الصوفية، فمراد المؤلف شيء غير هذا، ولأن مراد علماء الشريعة والحق أن الأبدال: الذين يخلف بعضهم بعضاً، والأقطاب: الذين لهم مكانة وتمكن في الدين شاهدوها وسمعوا بها وسكتوا عنها، فهذا كلام المؤلف رحمه الله، ولكن الواقع أنهم ما سكتوا، ففي كل زمان من ينكر المنكر ويقيم الحجة على الناس.
أفهذا السكوت دليل على جوازها؟ هذا لا يقوله من له إلمام بشيء من المعارف، كذلك سكوتهم على هذه الأشياء الصادرة من القبوريين.
وقد سبق أن العلماء ما سكتوا بل بينوا، ولكن العلماء يختلفون، فمنهم من يستطيع أن يبين، ومنه من لا يستطيع فيكون معذوراً، وقامت الحجة بمن بين.