للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومثاله: حُكْم سؤر سباع الطير يتجاذبه قياسان , أحدهما جلي , والآخر خفي, فمقتضى القياس الجلي الحُكْم بنجاسته قياساً على سؤر البهائم , وسؤر البهائم نجسٌ لمخالطة لعابها الماء , ولعابها متولِّدٌ من اللحم فيأخذ حكمه في النجاسة , فيكون سؤرها نجساً, فيقاس عليه سؤر سباع الطير بجامع أن كلاً منهما لعابه نجس ,لأن كلاً منهما متولِّدٌ عن اللحم النجس.

ومقتضى القياس الخفي الحُكْم بطهارته , لأنها تشرب بمنقارها على سبيل الأخذ ثم الابتلاع , والمنقار طاهر؛ لأنه جافٌّ ليس فيه رطوبةٌ فلايتنجس الماء بمخالطة اللُّعاب , فيكون سؤرها طاهراً قياساً على الآدمي , لعدم وجود العِلَّة الموجِبة للنجاسة ,وهي الرطوبة النَّجِسة في المنقار (١).

وبهذا يترجح القياس الخفي على القياس الجلي , لقوة العِلَّة وثبوتها فيه.

وتسميةُ أحد القياسين استحسانًا تمييزٌ له عن الآخر؛ لرجحانه عليه.

قال السرخسي: " فسمّوا ذلك استحساناً للتمييز بين هذا النوع من الدليل وبين الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل التأمل, على معنى أنه يمُال بالحُكْم عن ذلك الظاهر لكونه مُستحسَناً لقوة دليله ,وهو نظير عبارات أهل الصناعات في التمييز بين الطرق لمعرفة المراد, فإن أهل النحو يقولون: هذا نُصِبَ على التفسير، وهذا نُصِبَ على المصدر، وهذا نُصِبَ على الظرف، وهذا نُصِبَ على التعجُّب, وما وضعوا هذه العبارات إلا للتمييز بين الأدوات الناصبة, وأهل العَروض يقولون: هذا من البحر الطويل وهذا من البحر المتقارِب وهذا من البحر المديد, فكذلك استعمال علمائنا عبارة القياس والاستحسان للتمييز بين الدليلين المتعارضين , وتخصيص أحدهما بالاستحسان لكون العمل به مُستحسَناً، ولكونه مائلاً، عن سَنَنَ القياس الظاهر " (٢).

وحاصل الفرق بين القياس الظاهر والاستحسان: " أن الاستحسان أخصّ من القياس من وجه، وأعمّ منه من وجه, أما أنه أخصّ منه، فمن جهة رجحان مصلحته، وكونها أشد مناسبةً في النظر من مصلحة القياس, وأما أنه أعمّ ; فمن جهة


(١) ينظر: المراجع السابقة.
(٢) أصول السرخسي: (٢/ ٢٠٠ - ٢٠١)

<<  <   >  >>