بَكْرٍ وَبِلَالًا أَوْ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ، وَكَانُوا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: كَيْفَ تَجِدُكَ يَا عَامِرُ؟ فَقَالَ:
إِنِّي وَجَدْتُ الْمَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ ... إِنَّ الْجَبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ
كُلُّ امْرِئٍ مُجَاهِدٌ بِطَوْقِهِ ... كَالثَّوْرِ يَحْمِي جِسْمَهُ بِرَوْقِهِ
فَقَالَ: كَالْكَلْبِ. بَدَلَ قَوْلِهِ: كَالثَّوْرِ. وَرَامَ اخْتِبَارَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْهُجَيْمِيُّ: قُلْ: كَالثَّوْرِ. يَا ثَوْرُ، فَإِنَّ الْكَلْبَ لَا رَوْقَ لَهُ، إِذِ الرَّوْقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ ثُمَّ السُّكُونِ الْقَرْنُ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِصِحَّةِ عَقْلِهِ وَجَوْدَةِ حِسِّهِ.
قَالَ عِيَاضٌ: وَإِنَّمَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ لِأَصْحَابِ الثَّمَانِينَ التَّحْدِيثَ لِكَوْنِ الْغَالِبِ عَلَى مَنْ يَبْلُغُ هَذَا السِّنَّ اخْتِلَالَ الْجِسْمِ وَالذِّكْرِ، وَضَعْفَ الْحَالِ وَتَغَيُّرَ الْفَهْمِ وَحُلُولَ الْخَرَفِ، فَخِيفَ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ التَّغَيُّرُ وَالِاخْتِلَالُ فَلَا يُفْطَنَ لَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ جَازَتْ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ.
وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي هَذَا التَّوْجِيهِ فَقَالَ: مَنْ بَلَغَ الثَّمَانِينَ ضَعُفَ حَالُهُ فِي الْغَالِبِ، وَخِيفَ عَلَيْهِ الِاخْتِلَالُ وَالْإِخْلَالُ، وَأَلَّا يُفْطَنَ لَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَخْلِطَ، كَمَا اتَّفَقَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الثِّقَاتِ، مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ. عَلَى أَنَّ الْعِمَادَ ابْنَ كَثِيرٍ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ اعْتِمَادُهُ فِي حَدِيثِهِ عَلَى حِفْظِهِ وَضَبْطِهِ.
فَيَنْبَغِي الِاحْتِرَازُ مِنَ اخْتِلَاطِهِ إِذَا طَعَنَ فِي السِّنِّ، أَوْ لَا، بَلِ الِاعْتِمَادُ عَلَى كِتَابِهِ أَوِ الضَّابِطِ الْمُفِيدِ عَنْهُ، فَهَذَا كُلَّمَا تَقَدَّمَ فِي السِّنِّ كَانَ النَّاسُ أَرْغَبَ فِي السَّمَاعِ، مِنْهُ كَالْحَجَّارِ، فَإِنَّهُ جَازَ الْمِائَةَ بِيَقِينٍ ; لِأَنَّهُ سَمِعَ (الْبُخَارِيَّ) عَلَى ابْنِ الزُّبَيْدِيِّ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَسْمَعَهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَكَانَ عَامِّيًّا لَا يَضْبِطُ شَيْئًا، وَلَا يَتَعَقَّلُ كَثِيرًا، وَمَعَ هَذَا تَدَاعَى الْأَئِمَّةُ وَالْحُفَّاظُ فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُمْ إِلَى السَّمَاعِ مِنْهُ، لِأَجْلِ تَفَرُّدِهِ، بِحَيْثُ سَمِعَ مِنْهُ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute