وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي تَرْجِيحِ مَا قَلَّتْ وَسَائِطُهُ عَلَى مَا كَثُرَتْ ; لِأَنَّ احْتِمَالَ الْغَلَطِ فِيمَا قَلَّتْ وَسَائِطُهُ أَقَلُّ، ثُمَّ إِنَّ مَا عَلَّلَ بِهِ تَفْضِيلَ النُّزُولِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ وَلَوْ كَانَ رَاوِيَ الْعَالِي أَحْفَظَ أَوْ أَوْثَقَ أَوْ أَضَبَطَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ جَزْمًا، كَمَا أَنَّهُ إِذَا انْضَمَّ إِلَى النُّزُولِ الْإِتْقَانُ، وَكَانَ الْعُلُوُّ بِضِدِّهِ لَا تَرَدُّدَ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ - فِي أَنَّ النُّزُولَ أَقْوَى، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ، وَسَأَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ آخِرَ الْبَابِ.
وَحِينَئِذٍ فَمَحَلُّ الِاخْتِلَافِ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ مَا عَدَا العُّلُوَّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْعُلُوُّ أَفْضَلُ، وَطَلَبُهُ - كَمَا قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ - مِنْ عُلُوِ هِمَّةِ الْمُحَدِّثِ، وَنُبْلِ قَدْرِهِ، وَجَزَالَةِ رَأْيِهِ.
وَلِذَا أَجْمَعَ أَهْلُ النَّقْلِ عَلَى طَلَبِهِمْ لَهُ، وَمَدْحِهِمْ إِيَّاهُ، حَتَّى إِنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُورِدْ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ مَالِكٍ مِنْ جِهَةِ الشَّافِعِيِّ ; لِكَوْنِهِ لَا يَصِلُ لِمَالِكٍ مِنْ طَرِيقِهِ إِلَّا بِوَاسِطَتَيْنِ، وَهُوَ قَدِ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ بِإِدْرَاكِهِ أَصْحَابَهُ كَالْقَعْنَبِيِّ، فَلَمْ يَرَ النُّزُولَ مَعَ إِمْكَانِ الْعُلُوِّ.
وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَلِهَذَا اعْتَمَدَ الْبُخَارِيُّ فِي كَثِيرٍ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَلَى شُعَيْبٍ ; إِذْ كَانَ مِنْ أَحْسَنِ مَا أَدْرَكَهُ مِنَ الْإِسْنَادِ، وَأَقَلَّ مِنَ الرِّوَايَةِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ حَدِيثِ مَعْمَرٍ وَقَعَ لَهُ بِنُزُولٍ، عَلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَدْ رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُمْ تِلْمِيذُهُ مُسْلِمٌ بِوَاسِطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ; كَأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَدَاوُدَ بْنِ رُشَيْدٍ، وَسُرَيْجِ بْنِ يُونُسَ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَعَبَّادِ بْنِ مُوسَى الْخُتُلِّيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ، وَهَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ.
مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ رَوَى عَنْهُ بِدُونِهَا ; إِمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَسْمَعْ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ إِلَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute