قد سبق لك في الخطبة أن المؤلف رحمه الله قد أكثر في كتابه من التخليط في تبويبه، وذكر غير المناسب لمطلوبه، ولكن لعمر لم يقع له بهدة الأوصاف أكثر من الباب السابع حيث ترجمه بمن استخفه الملل والضجر لطول الزمان فغدر المحبوب وهجر، فإن الوقف على هذه الترجمة يفهم منها أنه يذكر متحابين نكث أحدهما عهد الآخر، ولم يذكر من ذلك إلا قصة التي ترجم لها في الباب بمن تاب عن عقوقه ورجع إلى معشوقه فمات في نادي الهوى وسوقه. وها أنا أذكر ما وقع لي من ذلك على الشرط المتقدم إن شاء الله تعالى.
الصنف الأول في كر من تاب عن الخلاف ورجع إلى حسن الائتلاف وكان محبوبه في الوجود فتراضيا على ضم شمل العهود
حكى المسعودي في جزء لطيف سماه اقتداح زناد الأشواق واسترجاع شوارد العشاق.
أن المجنون أخبر بعد توحشه بزواج ليلى، فجاء ولبس أثوابه وأقام مدة يظهر انحلال العشق وأنه لم يبق له فيها أرب. لما كان قد عاهدها وعاهدته أنها تدوم معه على المحبة ولا تنقض لعهد الصحبة.
فبينما هو ليلة نائم إذ رآها باكية فدنا منها فولت وجهها وقالت أي غادر لو ملكت من أمري ما تملكه أنت من أمرك ما فعلت وأيم الله إني لم أكن معه إلا كمفترش النار في الهواجر أو متوسد السعدان عارياً فانتبه مرعوباً باكياً، ثم نزع ما عليه وعاد إلى التوحش.
وفيه أيضاً أن قيس بن ذريح حين تزوجت لبنى خرج متصفحاً أحياء العرب حتى ظفر بامرأة اسمها لبنى فتزوج بها، وقال عشق بعشق وامرأة بامرأة وأقام معها، والصحيح أن ذلك لم يكن باختياره، وإنما وقع بحيلة ولم يقم معها وقد بسطت الخبر في قصته.
وفيه ونقله المصنف هنا أن عزة أرادت أن تعلم ما لها عند كثير فتنكرت ومرت به متعرضة، فقام إليها وكلمها فقالت أين حبك لعزة؟ قال جعلت فداءك لو أنها أمة لوهبتها لك. قالت لا تفعل فقد بلغني أنها لك مخلصة وفي المحبة صادقة. فقال دعيني منها فهل لك في المخالاة؟ قالت وكيف تصنع بما قلت فيها؟ قال أديره فيك، ثم أنشد يقول:
ما وصل عزة إلا وصل غانية ... في وصل غانية عن وصلها خلف
فكشفت عن وجهها فبهت، إلى هنا يا فاسق فهلا كنت مثل جميل حيث يقول:
لحا الله من لا ينفع الوعد عنده ... ومن حبله أن مد غير متين
ومن هو ذو وجهين ليس بدائم ... على العهد خلاف بكل يمين
ثم لم يزل يعتذر ويتنصل إلى أن قبلته ولا مناقضة بيت هذا وبين ما تقدم من أنه أثبت من جميل لقوله هينئاً مريئاً البيت وقول جميل رمى الله في عيني بثينة الأبيات لأن تلك أدل على الأشفق وهذه على الأعشق.
وأما قصة ذي الرمة حيث عابت عليه المرأة تشبيهه محبوبته بالعنز في الأبيات التي منها:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا أأنت أم أم سالم
فتنصل واعترف حتى وهبها الراحلة فأعادتها وصفحت فليس من هذه القبيل إذ ليس بنقض عهد وإنما هو غفلة عن مقام الحبيب المحبوب قاد إليه التوغل في التشبيب ونظيرها ما سبق في قصة كثير من اعتراض العجوز عليه في قوله: فما روضة بالحزن البيتين، وأما من رجع نادماً على الهفوات فوجد الحبيب قد فات فجرعته الغصص من ذلك كأس الممات فقليل.
ومنهم ما حكاه في النزهة ونقله هنا مجهولاً
أن كعب بن مسعدة الغفاري، قال خرجت أنا ومالك بن غفيلة العذري نمشي في القمر إذا بنسوة تقول إحداهن أي والله هو، ثم قربن منا فقالت إحداهن قل لصاحبك:
ليست لياليك في حاج بعائدة ... كما عهدت ولا أيام ذي سلم
فقالت قد سمعت فأجب قال قد انقطعت فأجب أنت فقلت ولم يحضرني غيره:
فقلت لها يا عز كل مصيبة ... إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت
وانصرفنا فما استقريت إلا وجارية تقول أجب المرأة التي كلمتك، فلما صرت إليها، قالت أنت المجيب. قلت نعم، قالت فما أقصى جوابك قلت لم يحضرني غيره فقالت لم يخلق الله أحب إلي من الذي كان معك فقلت علي أن أحضره إليك، فقالت هيهات فضمنته في الليلة القابلة ورجعت فرأيته في منزلي فأخبرني بالقصة كالمكاشف فقلت له قد ضمنت لها حضورك الليلة القابلة فلما كان الوقت مضيناً فإذا بالمجلس قد طيب وفرش فجلسنا فتعاتبا فأنشدته أبيات أميمة امرأة ابن الدمينة.