قال ابن الفرات ثم أنه لزم الوساد أياماً وأن أمه أقسمت عليه حين سمعته يكرر الأبيات الا ما أخبرها بحاله فأظهرها على الأمر فعرفت الجارية فإذا هي ظريفة بنت صفوان بن واثلة العذري فمضت إليها وأعلمتها القصة وقبلت رجليها على أن تزور بيتهم فعسى أن يشفى ولدها فقالت أن الوشاة كثيرون ولكن خذي هذا الشعر إليه فإن أمسكه فإنه يشفى ثم جزت لها شيئاً من شعرها فلما ذهبت إليه جعل يتنشقه فتراجعت نفسه شيئاً فشيئاً حتى اشتهى ما يأكل فقدم إليه فتناوله وقام فكان يأتي قريباً من الأبيات فيسارقها النظر وتخالسه هي أيضاً إلى أن فطن أهلها فآلوا على قتله وبلغه فوقع إلى اليمن وكان كلما اشتد شوقه قبل الشعر وجعله على وجهه فيستريح لذلك فلما كان يوم من الأيام وقد خرج لبعض حاجاته سقط منه الشعر فلما أيس منه عزم على العود فعنف فقال دعوني فإني أرجو أن أظفر أو أموت فصحبه غلام.
قال أبو شراعة فرأيته في الطريق وعليه بردان وهو يعلم الصبي الأبيات ويقول له إذا حاذيت موضع كذا فأنشدها رافعاً صوتك ولك أحد هذين البردين فتبعتهما حتى بلغ الموضع فأنشد:
مريض بأفناء البيوت مطرح ... به ما به من لاعج الشوق يبرح
وقالوا لأجل اليأس عودي لعل ما ... تشكاه من آلام وجدك يمسح
وليس دواء الداء إلا بحيلة ... أضربنا فيها غرام مبرح
إذا ما سألناها نوالاً تنيله ... فصم الصفا منها بذلك اسمح
فتبعت الصبي وهو لا يشعر بي فلما حاذاها رفع عقيرته بالأبيات ينشدها فسمعت من بعض الأبيات قائلاً يقول:
رعى الله من هام الفؤاد بحبه ... ومن كدت من شوقي إليه أطير
لئن كثرت بالقلب أتراح لوعة ... فإن الوشاة الحاضرين كثير
فيمشون يستشرون غيظاً وشرة ... وما منهم إلا أب وغيور
فإن لم أزر بالجسم رهبة مصدر ... فللقلب آت نحوكم فيزور
وفي النزهة فإن لم أزر بالجسم خيفة معشر وهو أحسن ثم رجع الصبي فأنشد أبياتها فأغشى عليه ساعة ثم أفاق وهو ينشد:
أظن هوى الخود الغريرة قاتلي ... فيا ليت شعري ما بنو العم صنع
أراهم وللرحمن در صنيعهم ... تراكى دمي هدراً وحاب المضيع
ثم مضى متنكراً حتى دخل بيته ولزمه أياماً إلى أن زفت ظريفة إلى رجل منهم يقال له ثعلب فلما بلغه الخبر اضطرب ساعة ثم أغمي عليه فحرك فإذا هو ميت وبلغها فلزمت البكاء أياماً ولم تمكن الرجل من نفسها فما كانت ذات ليلة خرجت من بعد انتصاف الليل فتعبها حتى انتهت إلى نهر فألقت بنفسها فيه فأخرجها وليس بها حراك ثم احتملها إلى الخيمة، فلما أصبح الصبح جاءت أمها فوجدت بها رمقاً ولكنها لم تفقه كلاماً فأشارت أن تسقى الماء فسقوها فقضت من وقتها. وفي روضة القلوب أنها غرقت ولم تخرج إلا ميتة.
[ومنهم شخص]
قال التوزي مسنداً عن بعضهم أنه رآه وقد تهيأ إلى الحج فلما دخل بغداد رآه وقد أقبل تحت قصر ومعه تفاح فجعل يرشق به إلى القصر وجوار تناوله بأيديها فقال له ويحك ألم ترد الحج فأنشد:
ولما رأيت الحج قد آن وقته ... وأبصرت برك العيس بالركب يعسف
رحلت مع العشاق في طلب الهوى ... وعرّفت من حيث المحبون عرفوا
وقد زعموا أن الجمار فريضة ... فزعفر لي بعض وبعض مغلف
وقمت حيال القصر ثم رميته ... فظلت له أيدي الملاح تلقف
وإني لا أرجو أن تقبل حجتي ... وما ضمني للحج سعي وموقف