وهي أحوال يتصف بها البدن كتغير الألوان والعينين وتواتر النبض والخفقان وربما ازدادت هذه عند رؤية المحبوب أو سماع ذكره حتى إنها قد تقضي بالهلاك وكذا اعتقال اللسان وأحوال يتصف بها الفكر كفساد الذهن والتعقل وقد مر ثم هذه قد يستدل عليها بالتطور والتنقل قيل أتى بشاب إلى طبيب فلما تأمله لم يجد به ألماً فقال وهو قابض على نبضه لغلامه قد أخذني البرد فأتني بالفرجية فتغير نبض الشاب تحت يده فقال لأمه أن هذا عاشق امرأة اسمها فرجية فقال وهو كذلك وأنشد.
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أشواق الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائراً كان في صدري
وفي معناه محبة كل ما ينسب إلى المحبوب حتى الجدار وفيه قيل.
أمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا
وأبلغ من ذلك هجر ما كان عليه زمن الوصل زمن الفرقة من نحو ملبس ومأكل والاستلذاذ بتقبيل النعل قال ابن أبي حجلة وقد رأيت من فعل ذلك وعنفته فادعى في ذلك لذة عظيمة فقلت له بعدها وقد رأيته بمكة كيف على ما أعلم فيك فأنشد يقول:
ولله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والخلاعة جانب
أقول وفيه تظرف عظيم حيث جعل حصة الله منه نصفاً وعدد المقابل وهو دليل مزيد الاشتغال بالله حيث لم يجعل المقاسم واحداً خصوصاً واللهو في شعره أعم من أن يكون بالمحبوب وغيره وأما التشبه بالمحبوب في سائر الأفعال والأقوال والميل إلى ما يحبه والاستلذاذ باستعمال ما كان من أثره فأمر معلوم لا يجهل ومطلوب بين العشاق حتى قيل أن شخصاً وجد في تركته إثنا عشر حملاً وفردة من السراويل لكونه رأى ميل محبوبه إليها وآخر ألف هاون لسماع صوت هاون محبوبته وأما اتحاد الأجساد والمرض حيث يمرض فكثير قيل مرض أبو نواس ولم يعلم سبب مرضه حتى عاده شخص فأخبره بمرض عنان جارية الناطفي وأنها نشطت فكتب إليها:
إني حممت ولم أشعر بحماك ... حتى يحدث عوادي بشكواك
فقلت ما كانت الحمى لتطرقني ... من غير ما سبب إلا لحماك
وخصلة كنت فيها غير متهم ... عافاني الله منها حين عافاك
حتى قد اتفقت نفسي ونفسك في ... هذا وذاك وفي هذا وفي ذاك
وفي معناه أنشد:
وقف الهوى بي وحيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حباً لذكرك فليلمني اللوّم
ويقرب من هذا قول الشافعي:
مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه
وأتى الحبيب يعودني ... فبرئت من نظري إليه
إذا تقرر هذا فليكن الأخف منه كالغيرة وبذل النفس وترك ما سوى المحبوب بالطريق الأولى وكذا نظائرها كاستحلاء ما يتعلق به من نحو حديث وملبوس رؤية ما ينسب إليه ويقوله حسناً صحيحاً وإن كان بالخلاف ولم ينسب نحو هذا إلى المبالغة عند العشاق للاتيان بأعظم منه كما سمعت قال الزراع ودع هندي جارية كان يهواها فذرفت إحدى عينيه فغمض الأخرى عن الملاذ عقوبة لها أربعاً وستين سنة حتى مات.
وأما حصول العشق برؤية في النوم أو بالأثر أو بالسماع أو بالكلام أو الوصف أو اللمس أو بأول نظرة أو بالمطاولة والمعاشرة وزيادته بالبعد لقوم والقرب لآخرين فبحسب الأمزجة وقد أسلفت في طالعة الكتاب تفصيل ذلك وقبول المزاج سرعة الانتقاش والفرق بين لطافة المزاج وكثافته ونحو ذلك مما ينبئك على تعليل هذا فليراجع وقد ظهر لي في ذلك أن الناس أما ناظرون بلا حجب أو بها أما من العاشق والمعشوق معاً أو من أحدهما فقط وتختلف الحجب لطفاً وصفاء معكسهما فهذه أسباب الاختلاف وإن كانت لأهل الحقيقة بالذات.
[الباب الأول]
فيمن استشهد من المحبين شوقاً إلى حضرة رب العالمين