ومما يصلح إيراده هنا للمناسبة أن بعض المغفلين أحب امرأة وأجهد نفسه حتى اجتمع بها فنام فقالت له: لم لم تفعل ذلك قال: من شوقي إليك لعلي أراك في النوم فقالت: أنا عندك بنفسي فقم فانظرني.
فصل في أحكام الليل والنهار وذم قصرهما عند الوصل وطولهما عند الهجر والنفار وتمني طول زمن الوصل والرضا
وقصر الهجر وقطعه أسرع من القضا وما تشعب في ذلك بين العشاق وذهبوا كل مذهب على اختلاف الأذواق فمما قال متحمسهم بعد الجهد والغلبة ومرارة الصبر بعد فراق الأحبة:
يا ليل طل أو لا تطلّ ... لا بد لي أن أسهرك
لو بات عندي قمري ... ما بتّ أرعى قمرك
وما ألطف قول بعضهم في طول الليل وهجر المحب:
رقدت ولم ترث للساهر ... وليل المحب بلا آخر
وقال آخر
مات الظلام بليل ... أحييته حين عسعس
لو كان لليل صبح ... يعيش كان تنفس
وقال ابن منقذ
لما رأيت النجم ساه طرفه ... والقطب قد ألقى عليه ثباتا
وبنات نعش في الحداد سوافره ... أيقنت أن صباحهم قد ماتا
وقال بعضهم
وصل الحبيب جنان الخلد أسكنها ... وهجره النار يصلينا بها النارا
فالشمس بالقوس أمست وهي نازلة ... إن لم يزرني وبالجوزاء إن زارا
حكي أن محدثاً سئل عن معنى هذين البيتين فقال هذا راجع النجوم وقام مستحياً وآلى على نفسه أن لا يجس في حلقة حتى ينظر في النجوم وقال بعضهم في قصر ليل الوصال:
يا ليلة كاد من تقأصرها ... يعثر فيها العشاء بالسحر
وقال بعضهم وقد جمع وصف الزمانين:
عهدي بنا ورداء الليل مشتمل ... والليل أطوله كاللمح بالبصر
والآن ليلى مذ بانوا فديتهم ... ليل الضرير فصبحي غير منتظر
وقال الشريف ابن الهبارية:
لقد ساهرتني عيون الدجى ... وقد نام عني عيون الملاح
إذا اشتكى الليل هجر الصباح ... شكوت إلى الله هجر الصباح
وقال الفاضل في زمن الوصل
بتنا على حال يسرّ الهوى ... وريما لا يمكن الشرح
بوّابنا الليل وقلنا له ... إن غبت عنا هجم الصبح
وقال الأرجاني معتذراً عن طول ليل الهجر:
لا أدعي جور الزمان ولا أرى ... ليلي يزيد على الليالي طولا
لكن مرآة الصباح تنفسي ... للهم اصدأ وجهها المصقولا
وقال امرؤ القيس
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلى
وقال المتنبي
كم زورة لك في الأعراب خافية ... أزهى وقد رقدوا من زورة الذيب
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
في هذا البيت من الأنواع حسن المقابلة وفيه مقابل خمسة بخمسة ولكن نقد عليه في مقابلة الصبح بالليل لأن الجزء لا يقابل بالكل فلو قال النهار كان أولى وللمتنبي دقائق لطيفة أرى ترى إلى قوله:
وكم لظلام الليل عندي من يد ... تخبر أن المانوية تكذب
فإن المانوية فرقة تقول أن الآلهة اثنان إله الظلمة وإله النور والأول لا يفعل إلا الشر والثاني لا يفعل إلا الخير فنقول أن زيارة المحب أعظم خير فعلته الظلمة وقد كذبوا في قولهم.
وقال ابن رشيق:
أيها الليل طل بغير جناح ... ليس للعين راحة في الطباح
كيف لا أبغض الصباح وفيه ... بان عني نور الوجوه الملاح
وإنما أكثر وامن ذكر الليل دون غيره لأنه محل سكون الحواس وهدو الانفاس وخلو النفس بعد انطباق مسالك التشعبات عنها فتستجلب الأفكار الخفيات فيما مضى وما هو آت وأما النهار فالأفكار فيه منتشرة والشواغل مستكثرة فهو محل الاستغراق وقلة الاعتلاق ومحل التسلية عن الأشواق اللهم إلا شخصاً قد ملك الحب قياده فلا يلهيه شيء ولا ينسيه مراده وقلت جامعاً لغالب هذه المعاني.
يذكرك يا من هواها ضنى حالي ... شغلت فما منه أرى أبداً خالي
فنيت عن الأغيار فيك صبابة ... فغيرك لم يخطر مدى الدهر في بالي