بالله ربك لا تمر ببابنا ... أنا نخاف مقالة الحساد
فقال يا صالح أقد قالوا هذا؟ قلت نعم، فجعل يهذي ويقول:
إن كان قد كرهو زيارة عاشق ... فلرب معشوق يزور العاشقا
ثم رجع فلزم الوساد حتى مات.
[ومنهم ما حكاه الوراق عن الصوفي]
قال حدثني صديق لي، قال دخلت البيمارستان ببغداد، فرأيت شاباً نظيف الثياب قد شد إلى سارية ووراءه وسادة وبيده مروحة، فسلمت عليه وقلت لها ماذا تريد، فقال قرصين وفالوذج فأحضرتهما فلما فرغ قلت له هل تطلب غير هذا؟ قال وما أظنك تقدر عليه قلت أذره، فلعل الله أن يساعدني عليه. فقال تمضي إلى زقاق الغفلة فتقف بباب كذا وتقول مجنونكم من ذا أنحله فمضيت وفعلت ما قال، فخرجت إلي عجوز فقالت قل له عليكم من ذا أعله، فرجعت إليه وأخبرته بذلك فشهق شهقة فمات فرجعت إلى الباب فوجدت الصراخ وقد ماتت الجارية.
[ومنهم ما حكاه السامري]
قال مررت أنا وصديق لي بدير هرقل، فقال هل لك أن تدخل فتنظر إلى ما فيه من ملاح المجانين، فدخلنا وإذا بشاب نظيف الثياب حسن الهيئة جميل المنظر، فحين بصر بنا قال مرحباً بالوفد قرب الله بكم بابي، من أين أقبلتم؟ فقلنا جعلنا فداءك ومتسع الله بك أقبلنا من كذا، ثم قلنا له ما أجلسك ههنا وأنت لغير هذا المكان أهل وهو لغيرك محل، فتنفس الصعداء وهو مشدود إلى الجدار في سلسلة وصوب طرفه إلينا وأنشد:
الله يعلم أنني كمد ... لا أستطيع أبث ما أجد
روحان لي روح تضمنها ... بلد وأخرى حازها بلد
أما المقيمة ليس ينفعها ... صبر وليس يقرها جلد
وأظن غائبتي كشاهدتي ... بمكانها تجد الذي أجد
قلت وسيأتي منه أنه ينسب هذا الشعر لخالد الكاتب ولا يمكن أن يقال إن هذا المحكى عنه هو لأن خالداً لم يحبس وإنما كان سائحاً، كما سيأتي فلم يبق إلا استعارة أحدهما من الآخر قال الراوي، ولما فرغ من شعره التفت إلينا فقال هل أحسنت فقلنا نعم ثم ولينا، فقال بأبي ما أسرع ذهابكما أعيراني سمعكما فعدنا إليه فأنشد:
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم ... ورحلوها وسارت بالهوى الابل
وقلبت من خلاف السجف ناظرها ... ترنو إليّ ودمع العين منهمل
فودعت ببنان عقدها عمن ... ناديت لا حملت رجلاك يا جمل
ويلي من البين ماذا حلّ بي وبها ... يا نازح الدار حلّ البين وارتحلوا
يا حادي العيس عرج كي أودعها ... يا حادي العيس في ترحالك الأجل
إني على العهد لم أنقض مودتهم ... فليت شعري وطال العهد ما فعلوا
فقلنا له مجوناً لننظر ما يفعل ماتوا فقال أقسمت عليكم ماتوا، قلنا نعم فجذب نفسه في السلسلة جذبة دلع منها لسانه وبرزت عيناه وانبعث الدم من شفتيه وشهق فإذا هو ميت. فما ندمنا على شيء أعظم منه.
وحكاها المبرد كما هي وزاد، إن قال فوجدنا في الدير مجانين ليس فيهم أنظف من شاب عليه بقايا ثياب ناعمة فدنونا منه فقال أنشدوني شيئاً من الشعر أو أنا أنشدكم فقلنا له أنشد، فأنشد الشعرين فلما قال ما فعلوا قال رجل بغيض معنا ماتوا فقال وأنا أيضاً أموت فقال له افعل ما شئت فتجدب حتى مات وأخرج الزجاج في آماليه، عن المبرد الحكاية أيضاً لكنه قال فقال لنا أنشدوني فقلت لرفيقي أنشده فأنشد:
قبلت فاها على خوف مخالسة ... كقابس النار لم يشعر من العجل
ماذا على رصد في الدار لو غفلوا ... عني فقبلتها عشراً على مهل
غضي جفونك عني وانظري أمما ... فإنما افتضح العشاق بالمقل
فقال أنا وهذا القائل على طرفي نقيض فإنه يرى محبوبه وأنا مقصي، فقلنا له أنت عاشق قال نعم. قلنا لمن قال أنت سؤل، قلت محسن إن أخبرت قال عقد لي أبي على ابنة عم لي ثم توفي وترك مالاً كثيراً فاستولى عمي على المال ونسبوني إلى الجنون.
قال المبرد هذا كله والقيم يقول احذروه فإنه يتغير ثم التفت إلي فقال: أنشدني أنت فإنك من أهل الأدب فلم يحضرني إلا قول الشاعر:
قال سكينة والدموع زوارف ... تجري على الخدين والجلباب