وفي النزهة إذا لم يكن للوحش والمعنى قريب فانتشأ الود بينهما ولم يزالا على ذلك برهة إلى أن أجدبت سنونهم فارتحلوا منتجعين وافترقت القبيلتان فلما كان يوم من الأيام نظت كنانة إلى موضع ديارها فوجدوا البروق ملية والسحب فضية فعلموا أن الغيث عما فارتحلوا إلى أن نزلوا بها فنظر قيس في مواضع خزاعة فتذكر اجتماعهم فتنفس الصعداء وأنشد:
إذا ما نأت نعمى فهل أنت جازع ... قد اقتربت لو أن ذلك نافع
قد اقتربت لو أن في قرب دارها ... نوالاً ولكن كل ما صين مانع
فإن تلق لي نعمى هديت فحيها ... وسل كيف ترعى بالمغيب الودائع
وظني بها حفظ لغيبي ورعية ... لما استرعيت والظن بالغيب واسع
وقد يلتقي بعد الشتات أولو النوى ... ويسترجع الحي السحاب اللوامع
وما ذات جيد نازعت حبل حابل ... لتنجو ثم استسلمت وهي طائع
بأحسن منها ذات يوم لقيتها ... لها نظر نحوي كذى البث خاشع
كأن فؤادي بين شقين من عصا ... حذار وقوع البين والبين واقع
فقلت لها يا نعم خلي محلنا ... فإن الهوى والشمل يا نعم جامع
فقالت وعيناها يفيضان عبرة ... بأهلي بين لي متى أنت راجع
فقلت لها تالله يدري مسافر ... إذا أضمرته الأرض ما الله صانع
وإني لعهد الود راع وإنني ... لوصلك ما لم يطوني الموت طامع
ثم لم يزلا متعللاً بالأماني يعتوره الخيال أياماً إلى أن بلغه خزاعة بجبل بالشم من اليمن فارتحل حتى وقع بهم فقيل أنه عند رؤيتها سقط ميتاً.
وقال في النزهة أقام عندهم إلى أن أغارت عليهم بنو فزارة فقتل يومئذ.
[ومنهم]
[توبة بن حمير بن أسيد الخفاجي]
وكان شجاعاً مبرزاً في قومه، فصيحاً مشهوراً بمكارم الأخلاق ومحاسنها، وخفاجة على ما ذكر في النزهة فخذ من قحطان، وكانت تنزل ببني الأخيل كعب بن معاوية ويغزون معهم ويتحدثون في المسرح. وكان رئيس بني الأخيل حذيفة بن شداد بن كعب. وكان له ابنة قد شاع في العرب ذكرها بالحسن، والفصاحة من توبة التفاتة وقد برزت النساء بالبشر والاسفار للقاء القادمين من الغزو.
فرأى ليلى فافتتن بها فجعل يعاودها فيتحادث معها إلى أن أخذت قلبه، وأطارت لبه، فشكا لها يوماً ما نزل به منها فأعلمته أن بها منه أضعاف ذلك فأقاما على التزاور إلى أن حجبها زوجها، فقلق توبة لذلك حتى خامره الجزع، فكان يذهب بعقله أحياناً فأشاروا عليه بتعاطي الأسفار والخوض في المحادثات فعزم على الشام فمر بجميل فأنزله وأحسن خدمته، ثم تداعيا الصراع وكانا في موقف تشرف منه بثينة عليهما، فصرعه جميل، ثم نضله ثم قهره على ظهر الفرس ولم يكن له كفؤاً.
فقال له توبة كأنك تسحب ذلك منك ولم تدر أنه بربح هذه الجالسة، وأشار إلى بثينة ثم دعاه إلى واد يخفى عنها وتصارعا فيه، فصرعه توبة ثم مضى في طريقه، فمر سحراً بأشجار في وادي الغيل وعليها حمائم تغرد فعاودته الأشجان فأنشد:
نأتك بليلى دارها لا تزورها ... وشطت نواها واستمر مريرها
وخفت نواها من جنوب عفيرة ... كما خف من نيل المرامي جفيرها
يقول رجال لا يضرك نأيها ... بلى كل ما شق النفوس يضيرها
أليس يضر العين أن تكثر البك ... ى ويمنع منها نومها وسرورها
لكل لقاء نلتقيه بشاشة ... وإن كان حولاً كل يوم نزورها
خليليّ روحا راشدين فقد أبت ... ضرية من دون الحبيب ونيرها
يقرّ بعيني أن أرى العيس تعتلي ... بنا نحو ليلى وهي تجري صقورها
وما لحقت حتى تقلقل عرضها ... وسامح من بعد المرام صقورها
وأشرف بالأرض اليفاع لعلتي ... أرى نار ليلى أو يراني بصيرها
فناديت ليلى والحمول كأنها ... مواقير نخل زعزعتها دبورها
فقالت أرى أن لا تفيدك صحبتي ... لهيبة أعداء تلظى صدورها