فنهضنا فما بلغنا الباب حتى مات فرجعنا لنشهده فحين دفناه أقبلت جارية مسفرة ما رأيت أحسن منها، فما تركت تراباً على القبر حتى جعلته على رأسها فجاء قوم فجروها فقلت ارفقوا بها فقالت دعهم يبلغوا همتهم، فوالله لا ينتفعون بي، فما انقضى اليوم حتى ماتت فسألت عن القصة فقالوا أنه كان يعشقها فبذل في شرائها ملكه فأبوا عليه حسداً أن يكون عنده مثلها فأرسلت إليه تقول مرني بما شئت، فأرسل إليها أن الزمي طاعة ربك ومولاك وأقبل على الزهد وهو مع ذلك لا يفتر عن ذكرها حتى بلغ إلى ما رأيت.
[النوع الثاني في ذكر من بغله زهده الأمان فعصمه عن الغلمان]
وهؤلاء قوم جرت عليهم خصال البشر حتى افتتنوا باستحسان بعض الصور ثم عند إرادة النزوع ومقاربة الوقوع كشفت لهم حقائق الأحوال عن قبيح عواقب الأفعال فرجعوا إلى أنفسهم فذكروها خشية الله فزجر كل نفسه حتى غلب على هواه.
قال بعضهم مررت بمدائن قوم لوط فأخذت منها حجر الحاجة فحين نزلت في دار جعلته في طبقة، فجاء رجل ومعه غلام ولم يشعر بي فقضى منه وطراً فسقط الحجر عليه فمات فتعجبت من ذلك.
فمن المذكورين صوفي يسمى المهرجان كان مجوسياً ثم حسن إسلامه قال من شهده رأيته ببيت المقدس ومعه غلام جميل ينام إلى جانبه ثم يقوم فزعاً فيصلي ما شاء وينام وكان يفعل ذلك مراراً كل ليلة فإذا طلع الفجر قال اللهم أنت تعلم أن الليل قد مضى علي سليماً لم أقترف فيه فاحشة ولا كتبت الحفظة علي فه معصية وإن الذي أضمره في قلبي لو حملته الجبال لتصدعت أو كان بالأرض لتدكدكت، ثم يا ليل اشهد بما كان مني فيك فقد منعني خوف الله عز وجل عن طلب الحرام والتعرض للآثام ثم يقول سيدي أنت جمعت بيننا على تقى فلا تفرق بيننا يوم تجمع الأحباب، فقلت له قد سمعتك تقول كذا وكذا فما الذي يدعوك إلى عشرة من تخاف على نفسك منه فبكى وذكر أن مقصوده بذلك امتحان نفسه.
وعالج بعضهم نفسة في صحبة الأحداث بالهجر، قال أبو حمزة رأيت صوفياً يصحب غلاماً دهراً طويلاً ثم هجره، فسألته عن ذلك فقال وجدت نفسي عند الخلوة به تحدثني بما يسقطني من عين الله ففارقته ليثيبني الله ثواب الصابرين عن محارمه ويجمع بيننا في دار الكرامة.
قال ورأيت أيضاً رجلاً ومعه غلام يصحبه فمات الرجل فلم يبرح الفتى محزوناً فقلت له ما أراك تسلو عن صاحبك، فقال كيف أسلو عن شخص أحسن تأديبي وعصمتي من الفسق.
وحكى أبو حمزة الصوفي قال نظر رجل صوفي إلى غلام جميل فافتتن به فأقعد فكنا نأتيه ونسأله عن حاله فلا يخبر به، وبلغ الغلام حاله فعاده فهش له وضحك فأكثر من زيارته، فقام وذهب مرضه فعزمه الفتى يوماً فأبى أن يذهب معه فقلت له لأي شيء امتنعت، فقال لست معصوماً، وأخاف أن تحدثني نفسي عند الخلوة بما يحجبني عن الله.
وحكى أيضاً، قال صحب محمد بن قطن الصوفي غلاماً زمناً طويلاً، فلما مات الغلام نحل حتى بدا عظمه، فرأيته يوماً وقد وقف على قبره يبكي والسماء تمطر فما برح حتى جئت في الغد فوجدته ميتاً فدفنته إلى جانبه.
وصحب أبو الحسن غلاماً كأنما خلق الحسن على صورته أو خلق من نفس من ينظر إليه فكان يأتي به إلى بيته فتحدث الناس فيهما فمنع الغلام أهله من صحبة أبي الحسن فنحل حتى شارف الموت فأنشد:
يا من بدائع حسن صورته ... تثنى إليه أعنة الحدق
لي منك ما للناس كلهم ... نظر وتسليم على الطرق
لكنهم سعدوا بأمنهم ... وشقيت حين أراك بالفرق
ولم يزل حتى مات وغالب هذا الباب من رواية أبي حمزة عنهم والكل متقارب مكرر. انتهى ما أردنا تحريره من أحوال العشاق على اختلاف أنواعهم.
[خاتمة في ذكر ما عولج به العشق من الدوا]
[وقصد به السلو عن الهوى]
وهو الباب الرابع من الكتاب، قد سبق في صدر الكتاب أنه لا علاج للعشق على الأصح إلا دوام الوصال ما لم يتمكن أو يوقع الحبال، فمن العلاج ما ذكر عن عمر رضي الله عنه أنه عالج بالتغريب وتشويه الخلقة وذلك أنه مر ليلة في المدينة فسمع امرأة تقول:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أو من سبيل إلى نصر بن حجاج
إلى فتى ما جد الاعراق مقتبل ... سهل المحيا كريم غير ملجاج
نمته اعراق صدق حين تنسبه ... أخي حفاظ عن المكروب فراج