وتركي للحيين لم أبلغ منهما ... سواك ولم يربع هواي عليهما
فقالت الجارية:
حبيبي لا تعجل لتفهم حجتي ... كفاني ما بي من بلاء ومن جهد
ومن عبرات تعتريني وزفرة ... تكاد لها نفسي تسيل من الوجد
غلبت على نفسي جهاراً ولم أطق ... خلافاً على أهلي بهزل ولا جد
ولن يمنعوني أن أموت بزعمهم ... غدا خوف هذا العار في جدث وحدي
فلا تنس أن تأتي هناك فتلتمس ... مكاني فتشكو ما تحملت من جهد
فقد أوضحت له أنها هالكة من الغد بعشقه. فلما كان الموعد جاء فوجدها ميتة فاحتملها إلى شعب بذرى جبل يقال له عرفات بفتح المهملة، وضمها ملتزماً لها، فمات واختفى أمرهما حولاً حتى مر شخص من العرب فسمع هاتفاً على الجبل يقول:
إنا الكريمان ذو التصافي ... الذاهبان بالوفاء الصافي
والله ما لقيت في تطوافي ... أبعد من غدر ومن اخلاف
من مبتين في ذرى اعراف فصعد الناس فوجدوهما على تلك الحالة فواروهما.
ومنهم عمرو بن كعب بن النعمان ابن المنذر بن ماء السماء ملك العرب المشهور
قال ابن عساكر وكان من فرسان العرب وحماتها وكرمائها وشجعانها، وان جده النعمان صاحب الخورنق هو الذي كفله حين مات أبوه وهو صغير فلما زهد النعمان في الملك كما هو مشهور، ضاع أمر الغلام. قال في الشامات فأخذه عمه أبو النجاد، فلما بلغ عنده وكان له بنت تعرف بالعقيلة، وهي من أجمل نساء العرب وأعلمهن بالأدب وأحوال العرب أياماً ووقائع، فعلقت نفس عمر بها واشتد ولوعه وزاد غرامه، خطبها إلى عمه فطلب منه مهراً يعجز عنه، فأشار عليه بعض أصحابه بالخروج إلى ابرويز بن كسرى، لما كان بين جدودهما من الوصلة.
فلما ذهب في الطريق مر بعراف، فبات عنده فاستعلم منه الأمر، فأخبره أنه ساع فيما لا يدرك، فعاد فوجد عمه قد زوج العقيلة لفزاري، فهام على وجهه إلى اليمامة، فلما بنى بها الفزاري وكان عندها من العشق لعمرو أضعاف ما عنده لها فكانت تشد الفزاري إذا جن الليل إلى كسر البيت وتبيت في الخدر، فإذا أصبح الصبح تطلقه فيستحي أن يخبر العرب بذلك، فأقام على هذا الحال سبعين ليلة.
فلما كثر توبيخ العرب له واختلاف ظنونهم به، خرج لا يدري أين ذهب، وأقامت العقيلة ببيت أبيها لا تتناول إلا الأقل مما يمسك الرمق ودأبها البكاء على عمرو وهو كذلك ولم يمكنهما الاجتماع قال الغريابي في عجيب الانفاق في تطابق أحوال القامة فمرض عمرو مرضاً كاد أن يأتي على نفسه فكان لا يرى إلا شاخصاً إلى السماء متمسكاً بسبب قد علقه بيديه من العشاء إلى الصباح وهو ينشد:
إذا جن ليلى فاضت العين أدمعا ... على الخد كالغدران أو كالسحائب
أودّ طلوع الفجر والليل قائل ... لقد شدت الأفلاك بعد الكواكب
فما أسفي إلا على ذوب مهجتي ... ولم أدر يوماً كيف حال الحبائب
فلما كان بعد أيام دخل عليه صديقه فوجده غاصاً بالضحك مستبشراً، فسأله فقال:
لقد حدثتني النفس أن سوف نلتقي ... ويبدل بعد بيننا بتداني
فقد آن للدهر الخؤون بانه ... لتأليف ما قد كان يلتثمان
ثم شهق شهقة فاضت نفسه فيها، قال الفريابي فضبط اليوم الذي مات فيه فوجد موت عقيلة في ذلك اليوم أيضاً.
وأخرج المصنف عن ابن دريد عن الفرزدق، قال خرجت في طلب غلام آبق، فلما صرت على ماء لبني حنيفة جاءت السماء بالأمطار فلجأت إلى بيت من جريد النخل فيه جارية سوداء، فأنزلتني فلم ألبث إلا ريثما أخذت الراحة وقد دخلت لي جارية كأنها القمر، فحيت ثم قالت ممن الرجل قلت تميمي. قالت من أيها قبيلة، قلت من نهشل بن غالب، فقالت إذاً أنتم الذين يقول فيكم الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول
بيتاً زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
قلت نعم، قالت قد هدمه جرير بقوله:
أخزى الذين سمك السماء مجاشعاً ... وأحل بيتك بالحضيض الأوهد
قال فأعجبتني فلما رأت ذلك في عيني قالت أين تؤم قلت اليمامة فتنفست الصعداء ثم قالت: