تذكرت اليمامة أن ذكرى ... بها أهل المروءة والكرامه
ألا فسقي المليك أجش جوناً ... تجود بصحة تلك اليمامه
أحيى بالسلام أبا نجيد ... فأهل للتحية والسلامه
قال فأنست بها فقلت أذات خدر أم ذات بعل فقالت:
إذا رقد النيام فإن عمراً ... تؤرقه الهموم على الصباح
تقطع قلبه الذكرى وقلبي ... فلا هو بالخلى ولا بصاح
سقى الله اليمامة دار قوم ... بها عمرو يحن إلى الرواح
فقلت لها من عمرو فأنشدت:
إذا رقد النيام فإن عمراً ... هو القمر المنير المستنير
وما لي في التبعل من براح ... وإن ردّ التبعل لي أسير
ثم سكتت كأنها تسمع كلاماً ثم أنشأت تقول:
يخيل لي أبا كعب بن عمرو ... بأنك قد حملت على سرير
فإن يك هكذا يا عمرو إني ... مبكرة عليك إلى القبور
ثم شهقة شهقة فماتت.
[ومنهم ما حكاه الأصمعي]
وقد قال له الرشيد حدثني بأعجب ما رأيت. قال أخبرني السميدع بن عمرو الكلابي وقد جاوز المائة. قال كنت كثير الأسفار فمررت قاصداً اليمامة ببيت يلوح، وقد قرب الليل فأردت المبيت عند، فقالت لي امرأة منه أضيف أنت، قلت نعم فقالت على الرحب والسعة، ولكن تنحى حتى يأتي رب المنزل فعدلت إلى طوى هناك فسقيت ناقتي وجلست وإذا بسوداء تحمل جفنة تريد معها تمر ورطب، فقالت تعلل بهذا فقلت في دونه كفاية فأكلت وأخرجت دقيقاً فأطعمت ناقتي وتوسدت ذراعها وإذا بقيم قد حال بيني وبين البيت، ثم غفت عيني فلم أفق إلا وشاب على أحسن ما يكون، ومعه عبيد قد أقبلوا بحطب ونار فأضرموها وجاؤا بكبش فذبح وكشط وطبخوا وثردوا وقدم إلينا فأكلنا، ثم قال لي كن هنا حتى آتيك الصباح فلما أشرف الصبح جاء ففعل كما فعل ليلته. فلما أكلنا قال لم أقض حقك فأقم عندي يومك.
فقلت سمعاً وطاعة، فركب ومكثت ساعة وإذا الجارية تقول لي أجب ابنة عمك، فقلت كيف أكلمها وقيمها غائب. قالت من وراء حجاب فأقبلت فسلمت، فقالت يا ابن العم أتريد اليمامة، قلت نعم. قالت فاحفظ عني هذه الرسالة وأعد إلي جوابها، وأنشدت:
أعلى العهد مالك بن سنان ... أم سقاه أفاوق الغدر ساق
أن يكن خان أو تناءى فإني ... لعلى العهد ما استناع رماقي
ما ألم الرقاد مذ بنت إلا ... بجفون قريحة الآماق
فعليك السلام ما لألأ النور وم ... ادب في الثرى عرق ساق
ثم قالت ليكن انشادك الأبيات بالحضرمة، فلما خرجت في اليوم الثاني خرج الشاب فقال يا ابن عمي هل أنت مبلغ عني رسالة وعائد إلي بجوابها؟ قلت نعم. فقال قف بقران بني سحيم وأنشد:
أيا سر حتى قرّان بالله خبراً ... عن البكره العيساء كيف نزاعها
فلو أن فيها مطمعاً لمتيم ... نأت دارها عنه وخيف امتناعها
لهان عليه جوب كل تنوفة ... يخاف عليه جورها وضياعها
تغرّبت عن نفسي وأيقنت أنها ... تريد وداعاً يوم جدّ وداعها
فلما دخلت اليمامة وقفت حيث وصف وأنشدت الأبيات، وإذا بجارية حاسرة كأنها مهرة تنشد:
تحمل هداك الله مني تحية ... إليه جديد كل يوم سماعها
وخبر عن العيساء إن قد توح ... مت مراعيها وطال نزاعها
لقد قطع البين المشتت ألفة ... عزيز علينا أن يحم انقطاعها
ثم شهقت شهقة فماتت، فلما أردت الانصراف وقفت بالحضرمة وأنشدت أبيات المرأة فأجابني فتى:
لم يحل عن وفائه ابن سنان ... لا ولا غاله انتشاء الفراق
إن بين الحشا لهيب اشتياق ... ليس يطفي جواه إلا التلاقي
إنما أبقت الهموم خيالاً ... بالياً ممسكاً بماء الرماق
ثم شهق شهقة فمات، فلما رجعت إلى الحي أخبرت المرأة بجوابها فشهقت شهقة فارقت نفسها، وعلت الأصوات فأقبل الشاب فقال لي ما شأنها؟ فأعلمته الخبر ثم أنشدته جواب أبياته، فقال فها أنا أيضاً ميت فاضطجع فكأنما كانت نفسه بيده.