فقلت له يوماً لئن فارقتني لأكونن كهذه. فقال أنا لا أفارقك أو أموت فقلت له قد تجد أحسن مني. قال معاذ الله أن يكون في الدنيا مثلك فأردت أن أعرف صدقه، وكانت لي صديقة قد احتوت على أرفع رتبة من الجمال، فاستحضرتها وأريته إياها من خلاف السجف، فوقعت بقلبه فراسلها فأجابته فتزوج بها فلم توافقه.
فرجع يطلب مني ما كنت عليه فأبت نفسي أن تطيع كما كانت وتشفع فلم يفد. فقال أطلقك مرة، قلت نعم ففعل وخرج، فلم أعرف خبره.
وإنما أخذتك لأنك غريب تفارقني، فإن رضيت هذا الحال وإلا فشأنك قلت فلأي شيء هجرك النوم قالت كفارة لنومي عن مناوحة الحمامة وسبقها لي.
الصنف الثالث في ذكر من أشبه العشاق في محبته وشاكلهم في مودته فتعاهدا لشدة كلفه بالمحبوب على عدم الفراق فنكث أحدهما عهد الآخر بعد التلاق
وهذا هو الذي عقد له المصنف الباب، ووعدنا بزيادته لأن الترجمة له خلاف الصواب. وقصة عاتكة مع عبد الله وإن كان لها بهذا الباب اعتلاق إلا أنها بما مضى الصق.
[فمنهم صخر بن عمرو]
وكان من أشجع العرب وأكرمهم وأجملهم، وكانت تحبه سلمى بنت عوف بن ربيعة بن حارث الرياحي، وصخر هذا هو أخو الخنساء المشهورة فيه بالشعر.
وكان عاهد سلمى على أن لا تتزوج بعده وهو كذلك عاهدها، وكان يقول إذا نظر إليها لا أكره الموت إلا أنه يفرق بيني وبين هذه. فلما كان اليوم المشهور بيوم الكلاب وهو الذي تحارب فيه بنو عوف وبنو الحرث، التقى صخر مع ربيعة بن ثور العوفي الأسدي بعدما غلبت بنو الحرث على بني أسد ونهبتهم فطعن ربيعة صخراً، وكان رمح صخر قصيراً فأصاب ربيعة في بطنه حلقاً من الدرع فمرض صخر سنة بالطعنة، فكانت أمه تلاطفه وقصرت سلمى في خدمته، فسمع يوماً امرأة تقول لأمه كيف حال صخر؟ فقالت نحن بخير ما دمنا نرى وجهه، وسألت امرأته أخرى فقالت لا حي فيرجى ولا ميت فينعى، فغم لذلك وأنشد:
فأي امرىء ساوى بأم حليلة ... فلا عاش إلا في عنا وهوان
وحكى في النزهة أنه جلس يوماً ليستريح وقد رفع سجف البيت فرأى سلمى واقفة تحدث رجلاً من بني عمها وقد وضع يده على عجيزتها فسمعه يقول لها أيباع هذا الكفل فقالت عن قريب.
فقال صخر لأمه علي بسيفي لأنظر هل صدىء أم لا فأتته به فجرده وهم بقتل سلمى، فلمى دخلت رفع السيف فلم يستطع حمله فبكى وأنشد:
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
وهذا مثل يضرب للعجز والبيت والذي قبله من قصيدة لصخر وأولها:
أرى أم صخر لا تمل عيادتي ... وملت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغتر بالحدثان
آهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
لعمري لقد نبهت من كان نائماً ... وأسمعت من كانت له أذنان
فلو مت خير من حياة كأنها ... محلة يعسوب برأس سنان
فأي امرىء ساوى بأم حليلة ... فلا عاش إلا في شقي وهوان
ولما اشتد غمه وطال مرضه نتأت قطعة موضع الطعنة، فقيل له اقطعها فحموا له حديدة فأدخلوها فيها فقيل كيف صبرك فأنشد:
فإن تسأليني هل صبرت فإنني ... صبور على ريب الزمان أريب
ثم مات فتزوجت سلمى بعده، وقيل سبب موته أنه سكر مع بلعاء بن ربيعة، وكان الآخر جميلاً عند يهودي فحسدهما على الحسن فسقاهما في الشارب سماً والصحيح الأول.
ومن لطيف شعر الخنساء في صخر قولها:
قذى بعينك أم بالعين أعوار ... أم اقفرت إذ خلت من أهلها الدار
كأن عيني لذكراه إذا خطرت ... فيض يسيل على الخدين مدرار
تبكي لصخر هي العبر أو قد ثكلت ... ودونه من جديد الترب أستار
تبكي خناس على صخر وحق لها ... إذ رابها الدهر إن الدهر ضرار
وما عجول على بويحنّ له ... لها حنينان اعلان وأسرار
ترتع ما غفلت حتى إذا ذكرت ... فإنما هي اقبال وادبار
يوماً بأوجع مني حين فارقني ... صخر وللدهر أحلاه وأمرار