وفي النزهة أنهم دعوا له طبيباً فلما أبصره أنكر حاله فدعا بشراب وسقاه، فلما تمكن منه أنشد:
خليلي إن العبدلية أزمعت ... على الصد والهجران فاستدينا عنسي
فلا صبر لي بعد الفراق على الجفا ... ولا راحة إلا التوسد في رمسي
فصبر محب عن حبيب يحبه ... نحال وهل جسم يعيش بلا نفس
ثم شهق شهقة خرجت نفسه، قلت وهذه الأبيات قد ثقلتها من جزء لطيف سماه صاحبه جلاء الأذهان في منتخب شعر قتلى الحسان.
وفي النزهة نقله عن ذي الرمة، ورواه بلفظ أن المنقرية يعني مية، وفي لطائف الفوائد وظرائف الشوارد لابن عبد ربه، أن مالكاً هذا لما قضى اتصل نعيه بجنوب وقد قدم إليها لبن، فلما امتصته ووقع الكلام في أذنها اضطربت خفيفاً، ثم اضطجعت فإذا هي ميتة.
[أخبار عبد الله بن علقمة وصاحبته حبيش]
هو عبد الله بن علقمة بن زرارة من قحطان.
وصاحبته حبيش بنت سعد بن أسلم من خريمة قبيلة من اليمن، ولم يذكره في النزهة ولكني رأيت في ظرائف الأخبار أن سبب اعتلاقه بها أنه أضاف أهلها، فأجلسوه في متحدث لهم، فخرجت حبيش وعلى وجهها سب أخضر فوقفت تحلب ناقة وهو ينظر، فضرب الهواء السب فكشف وجهها ويديها وكانت طويلة إلى الرقة واسعة الصدر كان وجهها البدر، فلما عاينها غاب عن حسه ساعة ثم عاوده الشعور فسكت خيفة أن يظهروا على حالة، ثم جاءت إليه باللبن ليشرب، فلما تناوله ارتعد حتى سقط من يده ففطنت لما به، وكان شاباً كأن القمر فداخلها ما داخله ولم يكونا متقاربين في المنزل لأنهما من فخذين فافترقا على ما داخلهما من الهوى.
وإن الغلام أرسل أمه بهدية إليها وتبعها وأقاما عدها فلم يزل كذلك يذهب مع أمه ويعود إليها أياماً، وكان في أوائل الهجرة، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى جذيمة وعليهم خالد بن الوليد فصادفوا العرب ظاعنين، ورأوا عبد الله وراء القوم يسوق قلوصاً له، فأمسكوه وعرضوا عليه الاسلام فقال وما هو، فقالوا كذا وكذا. فقال أرأيتم إن أنا لم أسلم فما أنتم صانعون قالوا نضرب عنقك. فقال هل لكم أن تتركوني أمضي إلى الظعن. قالوا بلى ونحن في أثرك. فمضى يتصفح الهوادج حتى وقف على هودج حبيش، فناداها أسلمي، فقد نفد العيش.
وفي رواية انقطع فقالت حبيش أو أسلم عشراً أو تسعاً وتراً أو ثماناً أو ثلاثاً تتراً على الخلاف في السيرة والمستدرك والتهذيب ثم أنشد:
أريتك إن طالبتكم فوجدتكم ... ببرزة أو أدركتم بالخوانق
أما كان حقاً أن ينوّل عاشق ... تكلف ادلاج السرى والودائق
فإني لا سر لدي أضعته ... ولا راق عيني بعد وجهك رائق
على أن ما ناب العشيرة شاغل ... ولا ذكر إلا أن يكون توامق
فها أنا ما سور لديك مكبل ... وما أن رآني بعدها اليوم ناطق
فأجابته:
أرى لك أسباباً أظنك مخرجاً ... بها النفس من جنبي والروح زاهق
فأجابها:
فإن يقتلوني يا حبشي فلم يدع ... هواك لهم مني سوى غلة الصدر
فأنت التي قفلت جلدي على دمي ... وعظمي وأسبلت الدموع على النحر
فأجابته:
ونحن بكينا من فراقك مرة ... وأخرى وقاسينا لك العسر باليسر
فأنت ولا تبعد فنعم أخو الندى ... جميل المحيا في المروأة والبشر
وفي رواية بعد قوله تكلف ادلاج السرى والودائق:
فلا ذنب لي قد قلت أنا هنا معاً ... أثيبي بود قبل أخذ الصفائق
أثيبي بود قبل أن يشحط النوى ... وتنأى الليالي بالحبيب المفارق
ثم ضربه غلام فأطار يده وقدم فشربت عنقه، وقيل أوثقوه أولاً حين أدركوه، وأنه رأى رجلاً منهم فقال له أما تستطيع أن تعرضني على النساء قبل أن تقتلوني، فقال سهل ما طلبت وعلى كلا الأحوال أنهم قتلوه وأنها نزلت حين رأت ذلك فقبلته وشهقت شهقة أو شهقتين فماتت.