فسقط مغشياً عليه حين سمع ذلك وتذكر به حال الماجنة وأنها أخبرته أنها تطلب الشام، ثم أفاق ورجع ورمى العمل وكان يركب قصبة ويطوف ببغداد وأهلها يطلبونه خصوصاً أرباب الدواوين ليسمعوا شعره، قيل قال له ابن الجهم يوماً هب لي قولك:
ليت ما أصبح من رقة حدّيك بقلبك
فقال من الذي يهب ولده، ورآه يوماً والصبيان يضربونه، فأدخله بيته ثم قال له بعدما أخذ الراحة، ماذا تريد قال هريسة ورطباً فأحضرهما، فلما أكل قال أسمعني شيئاً من شعرك فأنشد:
تناسيت ما أودعت سمعك يا سمعي ... كأنك بعد الضر خال من النفع
فإن كنت مجبولاً على الصد والجفا ... فمن أين لي صبر فاجعله طبعي
هل الحب تجنيه عليّ التفاتة ... فافرح بعد اليأس مني ومن نفعي
علام الجفايا من كلفت بحبه ... أتتلفني بالهجر منك وبالقطع
لئن كان أضحى فوق خديك روضة ... فإن على خدي غديراً من الدمع
فقال له أحسنت والله ووجد لذلك وجداً عظيماً، ثم قال له أسمعني شيئاً غير هذا قال حسبك لن ينالك بهريستك ورطبك أكثر مما سمعت، وخرج من عنده، وله أيضاً:
يا تارك الجسم بلا قلب ... إن كنت أهواك فما ذنبي
يا مفرداً بالحسن أفردتني ... منك بطول الهجر والحب
إن تك عيني أبصرت قينة ... فهل على قلبي من عتب
حسيبك الله لما بي كما ... أنك في فعلك بي حسبي
ودخل على ابن عباد فرفع مجلسه فقال ابن الأعرابي من هذا فقال أو ما تعرفه قال لا. قال هو خالد الكاتب فقال له ابن الأعرابي، أسمعنا من شعرك فأنشد:
لو كنت من بشر لم يفتن البشرا ... ولم يفق في الضياء الشمس والقمرا
نور تجسم منحلاً ومنعقداً ... سلك تضمن في تنظيمه دررا
فقال له ابن الأعرابي كفرت هذه صفة الخالق لا المخلوق أنشدنا غير هذا فقال:
أراك لما لججت في غضبك ... تترك ردّ السلام في كتبك
حتى أتى على قوله:
أقول للسقم عد إلى بدني ... حباً لشيء يكون من سببك
فقال له إنك لفوق ما وصت به ووقف عليه إبراهيم بن المهدي عشية وقد تلفع برداء أسود فقال له أنت القائل:
قد بكى العاذل لي من رحمة ... فبكائي لبكاء العاذل
قال نعم، قال يا غلام ادفع له ما معك، فقال خالد وما ذاك؟ قال ثلثمائة دينار، قل لا أقبلها أو تعرفني من أنت؟ قال أنا ابن المهدي، فأخذها وانصرف إبراهيم، فلما بويع له بالخلافة طلبه فقال له أنشدني من شعرك فأنشد:
عش فحبيك سريعاً قاتلي ... والضني إن لم تصلني واصلي
قد طغى الشوق بقلب دنف ... فيك والسقم بجسم ناحل
فهما بين اكتئاب وضنى ... تركاني كالقضيب المائل
وحكى عن حمزة الشاعر نحو ما سبق عن ابن الجهم من رؤيته مع الصبيان وادخاله وإطعامه لكنه قال: فأطعمه رطباً فقط واستنشدته فأنشد:
قد حاز قلبي فصار يملكه ... فكيف أسلو وكيف أتركه
رطيب جسم كالماء تحسبه ... يخطر في القلب منك مسلكه
يكاد يجري من القميص ... من النعمة لو القميص يمسكه
فصل في ذكر من جرع كأس الضنى وصبر على مكابدة العنا واتصف بذلك كله من النساء وثبت بعد فراق محبوبه على النوى أو كان منها داعية الاعتداء
حكى صاحب النزهة، قال نشأ ببني حران شاب لبعض التجار يدعى واصفاً وكان كامل الحسن والظرف واللطافة والعفة، وكان له ابنة عم تسمى لطيفة، وكانت على أرفع ما يكون من مراتب الجمال ومحاسن الأخلاق والخصال. فتوفي أبوها وتركها صغيرة فكلفها عمها حتى بلغت، فكانت تنظر إلى ابن عمها فيعجبها إلى أن تمكن حبه منها، فمرضت وهي تكتم أمرها.