للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكانت امرأة عمها فطنة مجربة للأمور فامتحنتها فوجدتها تغيب عن حسها أحياناً. فإذا دخل الغلام صحت والتمست ما تأكل فأخبرت أباه، فقال يا لها نعمة، ثم زوجه منها فأوقع الله حبها في قلبه فأقاما على أحسن حال مدة، وهو يأمرها أن تكون دائماً متزينة متطيبة، ويقول لها لا أحب أن أراك إلا كذا فلم يزالا على ذلك حتى ضعف الشاب ومات، فحزنت عليه وفقدت عقلها، فكانت تتزين بأنواع زينتها كما كانت وتمضي وتمكث على قبره باكية إلى الغروب.

قال الأصمعي مررت أنا وصاحب لي بالجبانة فرأيتها على تلك الحالة فقلنا لها علام ذا الحزن الطويل فأنشدت:

فإن تسألاني فيم حزني فإنني ... رهينة هذا القبر يا فتيان

وإني لاستحييه والترب بيننا ... كما كنت أستحييه حين يراني

فعجبنا منها ثم جلسنا بحيث لا ترانا لننظر ما تصنع فأنشدت:

يا صاحب القبر من كان يؤنسني ... وكان يكثر في الدنيا موالاتي

قد زرت قبرك في حلى وفي حلل ... كأنني لست من أهل المصيبات

لزمت ما كنت تهوى أن تراه وما ... قد كنت تألفه من كل هيآتي

فمن رآني رأى عبرى مولهة ... مشهورة الزي تبكي بين أموات

ثم انصرفت فتبعناها حتى عرفنا مكانها فلما جئنا إلى الرشيد، قال حدثني بأعجب ما رأيت فأخبرته بأمر الجارية. فكتب إلى عامله على البصرة أن يمهرها عشرة آلاف درهم ففعل وأتي بها إليه وقد أنهكها السقم فتوفيت بالمدائن.

قال الأصمعي فلم يذكرها الرشيد إلا ذرفت عيناه. وحكى بعض أهل المدينة، قال دعاني صاحب لي لسماع جارية تغني، فدخلنا عليها فإذا هي منخرطة الوجه متغيرة تكثر من السهر والاطراق كأنها مشغولة فعزمت عليها أن تخبرني بما بها، فقالت برح الذكر ودوام الفكر وخلو النهار وتشوقي إلى من سار، والذي ترى مما وصفت لك فإن كنت ذا أرب صرفت العتب عن ذي الكرب، واجتهدت في طلب الدواء لمن أشرف على العطب وأخذت العود فغنت تقول:

سيوردني التذكار خوض المهالك ... فلست لتذكار الحبيب بتارك

أبى الله إلا أن أموت صبابة ... ولست لما يقضي الإله بمالك

كأن بقلبي حين شط به النوى ... وخلفني فرداً صدور التيازك

تقطعت الأخبار بيني وبينه ... ليعد النوى واستد سبل المسالك

فوالله لقد خفت أن تسلب عقلي بغنائها، فقلت جعلني الله فداءك وهذا الذي صبرك إلى ما أرى يستحق ذلك مع أن الناس كثير فلو تسليت بغيره فلعل ما بك يسكن ويخف فقد قال الأول:

صبرت على اللذات لما تولت ... وألزمت نفسي صبرها فاستمرت

وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن أطعمت تاقت وإلا تولت

فقالت قد رمت ذلك فكنت كما قال قيس ولما أبى إلا جماحا البيتين، فأسكتتني حجبها عن المحاورة، وما رأيت كمنطقها وحسنها وأدبها.

وحكى الزبير بن بكار قد دخلت على الأمير بن طاهر حين قدم من الحجاز فتبسم في وجهي ثم قال:

لئن باعدت بيننا الأنساب ... فقد قربت بيننا الآداب

وأن أمير المؤمنين اختارك لتأديب ولده، فأمر لك بعشرة آلاف درهم وعشر نحوت وبغال تحمل عليها أمتاعك، فشكرت فضله.

فلما عزمت على الانصراف قال زودنا أيها الشيخ حديثاً نذكرك به فقلت أحدثك بما رأيت أبو بما سمعت قال بما رأيت أو بما سمعت. قال بما رأيت قلت بينما أنا بين المسجدين أو قال على اثاوة الأعرج، إذا أنا برجل صاد ظبياً وهم ليذبحه فنشب الظبي بقرنيه في الرجل فدخلا في جوفه فسقط الصياد والظبي ميتين أو قال رأيت حبالة منصوبة وظبياً مذبوحاً ورجلاً ميتاً فجاءت امرأة حسارة وهي تقول:

يا حسن يا بطل لكنه أجل ... على الاساءة ما أودي بك البطل

يا حسن قلقل أحشائي وأزعجها ... وذاك يا حسن عنيد كله جلل

أمست فتاة بني نهد علانية ... وبعلها في أكف القوم يبتذل

قد كنت راغبة فيه أضن به ... فحان من دون ضن الرغبة الأجل

<<  <   >  >>