ثم شهقت فماتت، فلم أرى أعجب من الثلاثة. وفي رواية وبعلها فوق أيدي القوم محتمل فوهب له عشرة آلاف درهم، ثم قال أتدرون ما استفدنا من الشيخ قالوا لا، قال قوله علانية يعني ظاهرة وهذا حرف لم أسمعه من العرب.
وحكى أن امرأة أحبت رجلاً وكان متمنعاً عنها زماناً فراسلته أن يتزوج بها ففعل وكانت بينهما ألفة شديدة فمكثا على ذلك مدة، فمرض ومات فجعلت المرأة تتردد إلى قبره ولزمته يوماً تبكي وتنشد:
كفى حزناً إلى أروح بحسرة ... وأغدو على قبر ومن في لا يدري
فيا نفس شقي جيب عمرك عنده ... ولا تبخلي بالله يا نفس بالعمر
فما كان يأبى أن يجود بنفسه ... لينقذني لو كنت صاحبة القبر
ثم زادت في النحيب وانكبت على القبر فإذا هي ميتة. وحكى الربيع قال مررت بجارية على قبر تقول:
بنفسي فتى أوفى البرية كلها ... وأقواهم في الموت صبراً على الحب
قال فقلت لها بم صار كذلك قالت كان إذ أعنف في حبي يصبر وإذا لحى عليه يسكت وإذا زاد به الغرام ينشد هذين البيتين:
يقولون إن جاهرت قد عضك الهوى ... وإن لم أبح بالحب قالوا تصبرا
فما للذي يهوى ويكتم حبه ... من الأمر إلا أن يموت فيقبرا
ولم يزل يكررهما حتى مات فها أنا مقيمة على حفظ عهده لا أبرح حتى يتصل القبران ثم صرخت وسقطت فاجتمع النساء فحركنها فإذا هي ميتة، فدفنت إلى جانبه.
وحكى رجل من تميم قال ضلت لي ابل فخرجت في طلبها فإذا أنا بجارية كأنها قمر تغشى بصر من ينظر إليها، فما رأتني قالت مالك؟ قلت ضلت لي ابل فلم أعرف خبرها. فقالت هل أدلك على من عنده علمهن. قلت بلى قالت إن الذي أعطاكهن هو الذي أخذهن وهو أحق بردهن فسله من طريق التيقن لا من طريق الاختبار فأعجبني كلامها ووقفت أنظر إليها ثم راودتها عن نفسها فقالت هبك ليس لك مانع من أدب أمالك زاجر من الحياء فقلت لن يرانا إلا الكواكب. فقالت أين مكوكبها؟ فقلت ألك بعل قالت قد كان ولكن دعي إلى ما خلق له فصار إلى ما خلق منه ثم أنشدت:
إني وإن عرضت أشياء تضحكني ... لموجع القلب مطوي على الحزن
إذا دجا الليل أحياني تذكره ... وزادني الصبح أشجاناً على شجني
وكيف ترقد عين صار مؤنسها ... بين التراب وبين القبر والكفن
ابلي الثرى وتراب الأرض جدّتة ... كأن صورته الحسناء لم تكن
أبكي عليه حنيناً حين أذكره ... حنين والهة حنت إلى وطن
أبكي على من حنت ظهري مصيبته ... وطير النوم عن عيني وأرقني
والله لا أنس حبي الدهر ما سجعت ... حمامة أو بكى طير على فنن
فقلت لها عندما رأيت من جمالها وفصاحتها هل لك في زوج لا تذم خلائقه وتؤمن بوائقه فأطرقت ملياً ثم أنشدت تقول:
كنا كغصنين في أصل غذاؤهما ... ماء الجداول في روضات جنات
فاجتث خيرهما من جنب صاحبه ... دهر يكر بفرحات وترحات
وكان عاهدني إن خانني زمني ... أن لا يضاجع أنثى بعد مثواتي
وكنت عاهدته أيضاً فعالجه ... ريب المنون قريباً من سنيات
فاصرف عنك عمن ليس يردعه ... عن الوفاء خلاف في التحيات
وحكى إبراهيم الموصلي، قال كان كثيراً ما يصف في زلزل جارية عنده فلما مات مولاها وسمعت عرضها للمبيع ركبت حتى دخلت عليها فإذا هي جاريه كاد الغزال أن يكونها لولا ما تم منها ونقص منه فسألتها أن تغني، فأخذت العود وغنت:
اقفر من أوتاره العود ... فالعود للاقفار معمود
وأوحش المزمار من صوته ... فما له من بعدك تغريد
من للمزامير ولذاتها ... وعارف اللذات مفقود
فالخمر تبكي في أباريقها ... والقينة الخمصانة الرود
فركبت إلى أمير المؤمنين فأعلمته بها، فاستحضرها فلما وقعت من قلبه، قال لها هل لك أن أشتريك؟ فقالت أما إذا اشتريتني فلا خير لك فيّ، فرحمها وأعتقها وأجرى عليها مؤونة.