قال في تسريح النواظر وكان غلاماً حسن الوجه سخي الكف شجاعاً وأن أباه توفي فاختلف مع عمه على بكرات فرحل مغضباً حتى نزل على بني باهلة فأقام عندهم برهة فورد الماء يوماً فصادف جارية على بعير تشد عقاله وهمت بالنزول فلما رأته قالت هل لك في أن تكفيني كلفة التعب. قال وفيم تتعبين وماذا تطلبين قالت ملء هذه السقاية ورمت بها إلي فلما ملأتها وهمت أن تتناولها شمرت عن زندين كأنما حجبت عظامهما بالبلور الصافي ثم تناولت القربة فانكشف البرقع عن وجه كأنما تستعير منه الشمس الضياء فداخلني ما خشيت معه زهاق نفسي قال ثم مضى متغير الحال فشكا إلى صديق له ما جرى له وسأله عن اسم الجارية فقال هي رملة بنت أثيلة بن مصقع وأعلمه بمكانها فكان يمضي في كل يوم فيقف حتى يراها فيشكو إليها ما عنده من حبها. قال الشيزري فداخلها من العشق ما داخله فلما علم أهلها بذلك حجبوها وبلغه علمهم فخرج حياء وخوفاً فرأى حمامات على أراكة ينحن فهاجت بلابله فأنشد:
دعت فوق أغصان من الايك موهناً ... مطوقة ورقاء في أثر آلف
فهاجت عقابيل الهوى إذ ترنمت ... وشبت ضرام الشوق بين الشراسف
ثم أدركه الليل قريباً من حي خشي أن يكونوا من قومها فنزل قريباً منهم فسمع قائلاً يقول:
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
وكان يرى الطير فارتابت نفسه من ذلك وراجعه القلق ثم أخذته سنة فإذا هو بقائل ينشد:
ولا شيء بعد اليوم إلا تعلة ... من الطيف أو تلقى بها منزلاً قفرا
فزاد قلقه ثم عاودته السنة فسع قائلاً يقول:
لن يلبث القرناء أن يتفرقوا ... ليل بكر عليهم ونهار
لم يبق يوماً عاشقان بحالة ... إلا وقد جاءتهم الأغيار
كل وإن طال المدى متصرم ... حكم الإله وسارت الأقدار
فقام فركب متفكراً وسار فلما برق الفجر إذا هو براع ينشد:
كفى بالليالي مخلقات لجدة ... وبالموت قطاعاً حبال القرائن
فعرف صوته فقال فلان قال نعم فقال له ما دهاك؟ قال قد ضاجعت رملة الثرى فسقط مغشياً عليه فلم يفق حتى حميت الهاجرة وحمل إلى بيته فأنشد:
يا راعي الضأن قد ألقيت لي كمدا ... يبقى ويقلقني يا راعي الضان
نعيت نفسي إلى روحي فكيف إذا ... أبقى ونفسي في أثناء كفاني
لو كنت تعلم ما أسررت في كبدي ... بكيت مما تراه اليوم أبكاني
فلم يزل يردده حتى مات:
[ومنهم]
[زرعة بن خالد العذري]
كان غلاماً حسن الوجه عذب المنطق سخي الكف راوية عارفاً بأيام العرب وأشعارها خرج يوماً للصيد فما ورد المشرعة وجد النساء يغترفن الماء ودونهن جارية قد انفردت تمشط شعرها على جانب الغدير وقد أسبلته كأنه الليل المظلم ووجهها من خلاله كأنه البدر في تمه فحين أبصرها سقط مغشياً عليه فقامت إليه فرشت عليه الماء فلما أفاق وأبصرها قال وهل مقتول يداويه قاتله قالت كفيت ما تشكو وحادثته فثابت نفسه إليه وقد داخله من الحب ثم رجع وهو يقول خرجنا لنصيد فاصطدنا ثم أنشد:
خرجت أصيد الوحش صادفت قانصاً ... من الريم صادتني سريعاً حبائله
فلما رماني بالنبال مسارعاً ... رقاني وهل ميت يداويه قاتله
ألا في سبيل الحب صب قد انقضى ... سريعاً ولم يبلغ مراداً يحاوله