فتزوج جارية صغيرة وجعلها في بيت نقره في جبل لا يصعد عليه إلا بالسلاسل، وأن عمليقاً نظرها فوقعت من قلبه، فأمر قومه فشدوه في حزمة سيوف واستودعوها لقمان مدة فوضعها في بيته، فلما خرج تحرك العملي فحلته الجارية فكان يكون معها إلى أن يأتي لقمان فتجعله في السيوف حتى انقضت المدة وطلبوا سيوفهم فدفعها، ثم جلس فنظر إلى نخامة في سقف بيته، فسألها عن فعلها. قالت أنا فأمرها تفعل فقصرت لأن النساء لا يقدرون على رفع النخامة إلى الأعلى لضعف مزاجهن.
فقال يا ويلتاه والسيوف دهتني، ثم رمى المرأة من أعلى الجبل ونزل فلقيته ابنته فضربها بحجر فكسر رأسها. فضربت العرب أمرها مثلاً لمن يؤخذ بلا ذنب فكان يقول المظلوم منهم، ما أذنبت إلا ذنب صخر يعني ابنة لقمان.
ومن الثاني ما حكي أن رجلاً عشق ابنة عمه حتى فني في حبها، فتزوج بها فكان لا يصبر عنها ساعة، وكان يجالس الناس فلم يصبر إلى انقضاء غرض المجالس حتى يدخل فينظرها ثم يرجع.
وأن ابن عم لها غيره اكترى داراً إلى جانبها وراسلها فوقع حب كل عند الآخر. فنزلت إليه ودخل زوجها فلم يجدها وسأل أمها فقالت تقضين حاجة فطلبها مكان الحاجة فلم يجدها، وإذا هي قد أتت من الدار فعزم عليها أن تصدقه أين كانت.
فقالت أما إذا عزمت علي فإنني أصدقك، وحدثته القصة فرمى عنقها وعنق أمها وهرب، فكان كثيراً ما يتمثل عند ذكر ذلك بشعر ديك الجن الآتي.
الصنف الثاني في ذكر من اشتدت به الغيرة إلى أن خامرته الحيرة فجرته إلى تهمة محبوبه فآثر قتله على نيل مطلوبه
حكي أن عبد الله بن رغبان الكلبي، وقيل عبد السلام المشهور بديك الجن الحمصي، كان أديباً حاذقاً، شاعراً لبيباً كأنما تنطق قريحته بالرقة واللطافة، والغزل والظرافة إلا أنه كان من أعظم الفساق بين العشاق، وأجمعهم للقساوة والاشتياق.
وأنه عشق جارية وغلاماً واشتد بهما كلفه وتهالك في حبهما حتى حان تلفه فاشتراهما، وكان يجعل الجارية عن يمينه، والغلام عن شماله ويجلس للشرب فيلثمها ويشرب من يدها تارة والغلام أخرى، ولم يزل كذلك إلى أن أحسن نفسه من شدة الحب أنه سيموت ويصيران إلى غيره فذبحهما وحرقهما، وعمل من رمادهما برنيتين، فكان يشرب فيهما ويقبلهما عند الاشتياق وأشعاره في ذلك متظافرة، ومن أحسن ما كان ينشده عند تقبيل برنية الجارية قوله:
يا طلعة طلع الحمام عليها ... فجنى لها ثمر الردى بيديها
حكمت سيفي في مجال خناقها ... ومدامعي تجري على خديها
روّيت من دمها الثرى ولطالما ... روّى الهوى شفتيّ من شفتيها
فوحق عليها لما وطىء الحصى ... شيء أعز عليّ من نعليها
ما كان قتيلها لأني لم أكن ... أبكي إذا سقط الذباب عليها
لكن بخلت على العيون بلحظها ... وأنفت من نظر العيون إليها
ومن لطيف شعره أيضاً:
جاءت تزور فراشي بعدما قبرت ... فظللت الثم نحراً زانه الجيد
وقلت قرة عيني قد بعثت لنا ... فكيف ذا وطريق القبر مسدود
قالت هناك عظامي فيه مودعة ... تعيث فيها بنات الأرض والدود
وهذه الروح قد جاءتك زائرة ... هذي زيارة من في القبر ملحود
وعند تقبيل برنية الغلام:
أشفقت أن يرد الزمان بغدره ... أو ابتلى بعد الوصال بهجره
قمرقد استخرجته من دجنه ... لبليتي وأثرته من خدره
فقتلته وله عليّ كرامة ... فلي الحشا وله الفؤاد بأسره
عهدي به ميتاً كأحسن نائم ... والطرف يسفح دمعتي في نحره
لو كان يدري الميت ماذا بعده ... بالحيّ منه بكى له في قبره
غصص يكاد تفيض منها نفسه ... ويكاد يخرج قلبه من صدره
ومن لطيف شعره في الدعاء على المحبوب:
كيف الدعاء على من جار أو ظلما ... ومالكي ظالم في كل ما حكما
لا آخذ الله من أهوى بجفوته ... عني ولا اقتصّ لي منه ولا ظلما