ومن وفاء النساء أن كسرى أبرويز ترك جارية كانت حظية فطلب ولده أخذها فعالجت ناوس كسرى ففتحته ودخلت فمصت خاتماً مسموماً كان في أصبعه فماتت.
[القسم الثالث]
فيمن خالسته عيون الاماء فأسلمته إلى الفناء وكادت أن تقضي عليه لولا المداركة بالوفاء
ومما ينبغي ذكره هنا مصدر الحكاية المشهورة عن حبابة، وهي جارية في الأصل للأحوص، وقيل لرجل مدني، وأنها كانت تسمى العالية، وأنه دخل بها على يزيد بن عبد الله في خلافة أخيه وعليها ازار له ذنبان وبيدها دف فغنته:
ما أحسن الجيد من ملكية ... واللبات إذ زانها ترائبها
يا ليتني ليلة إذا هجع ... الناس ونام النيام صاحبها
في ليلة لا يرى بها أحد ... يسعى علينا إلا كواكبها
فاشتراها بأربعة آلاف دينار، فبلغ أخافه فعزم على أن يحجر عليه فردها فاشتراها رجل من أفريقية. وقد تولعت بها نفس يزيد وكان قد تزوج سعدى بنت عبد الله بن عثمان وزنجية بنت عبد الله بن جعفر وأمهر كلاً منهما عشرين ألف دينار، فخاف من سليمان الحجر فلم يزل ينتظر حتى انتقلت إليه الخلافة، فأرسلت سعدى مولى لها في طلب حبابة، فبلغه أنها في المدينة فمضى إليها فقيل بمصر، فمضى إليها فقيل بافريقية، فمضى حتى اجتمع بمولاها فاشتراها منه بمائة ألف درهم بعد امتناعه من بيعها، لولا أني أخبرته بأن الخليفة سيأخذها منه قهراً، ولما ارتحل بها مولى سعدى أنشد الافريقي وقد تبعتها نفسه:
أبلغ جبابة أسقي ربعها المطر ... ما للفؤاد سوى ذكراً كم وطر
إن سار صحبي لم أملك تذكركم ... أو عرسوا تستهيم النفس والفكر
ولما مر بها على مكة شيعها الناس، وقيل من المدينة وكانوا مائتي رجل إلى ذي خشب، وسألوها أن تزودهم صوتاً فأنشدت:
سلكوا بطن مخيض ... ثم ولوا راجعينا
أورثوني حين ولوا ... طول حزن وأنينا
ثم كتبت أسماءهم حتى عرضتهم على يزيد فوهب كلاً ألف درهم، ولما وصل بها إلى سعدى ألبستها حللاً ووبهتها جواهر وطيباً كثيراً، ثم قالت للخليفة قد وهبك الله الملك فهل بقي عليك شيء، وهي تعلم ما في نفسه، فقال لا. فقالت بل أنا أعلم فاخبرني عسى أن أوصلك إليه، فقال العالية يعني حبابة. فقالت أوتعرفها إذا رأيتها؟ قال نعم فأخذت بيده حتى أدخلته عليها فسر وعظمت منزلة سعدى عنده، وكان عاهدت حبابة أن لا تدع لها حاجة عند الخليفة إلا فضتها، وأن يجعل الخلافة لولدها ففعلت، وكانت ربيحة قد اشترت سلامة وهي أيضاً جارية كانت لمدني وكان قد رآها يزيد فوقعت من نفسه موقعاً عظيماً، فلما اجتمعنا عنده، قال أنا الآن كما قيل:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالاياب المسافر
وأول ما عظمت به عنده أن دخل يوماً فسمعها تغني من وراء الستر ولا علم لها به:
كان لي يا يزيد حبك حيناً ... كاد يقضي عليّ حين التقينا
فكشف الستر فوجدها مستقبلة الجدار فعلم أنها لم تشعر به فألقى نفسه عليها وارتفعت منزلتها عنده وكانت حبابة أجمل نساء زمانها قد حوت اللطافة والمعرفة بالأدب والآلات والغناء وأخذته عن أهله مثل معبد وجميلة وأم عوف وغيرهم وكان يزيد قبل خلافته يختلف إلى أم عوف ويقترح عليها أن تغني:
متى أجر خائفاً تسر مطيته ... وإن أخف آمناً تنبو به الدار
سيروا إليّ وأرخوا من أعنتكم ... إني لكل امرىء من وتره جار
فسأل حبابة أن تغنيه ولم يمكنها الطعن على أم عوف فبكت يزيد بحبه لها بأن غنت أثر الصوت:
أبى القلب إلا أم عوف وحبها ... عجوزاً ومن يحبب عجوزاً يفندا
فضحك وقال لمن هذا فقالت لمالك فكان كثيراً ما يسألها أن تغنيه، فغنت يوماً:
لعمرك أنني لا حب سلعا ... لرؤيتها ومن بجنوب سلع
تقر بقربها عيني وإني ... لأخشى أن تكون تريد فجعي
حلفت برب مكة والهدايا ... وأيدي السابحات غداة جمع
لأنت على التنائي فأعلمته ... أحبّ إليّ من بصري وسمعي