للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولما أنشدته البيت الأول تنفست الصعداء، فقال يزيد مالك وله والله لو أردته حجراً حجراً لجئت به إليك فقالت ما أصنع به إنما أريد صاحبه أو ساكنه واقترح عليها وعلى سلامة يوماً أن يغني كل منهما ما في نفسه، ومن أصابت فلها ما تطلب فغنت سلامة فلم تصب وغنت حبابه:

خلف من بني كنانة حولي ... بفلسطين يسرعون الركوبا

فأصابت به ما في نفسه فقال احتكمي، فقالت تهب لي سلامة وما لها، فأبى وقال اطلبي عيرها فأبت إلا هي، فقال أنت أولى بها وبما لها فغمت سلامة لأنها كانت أرفع منها زمن التعليم عند معبد، حتى كان يأمرها أن تدرب حبابة، فذكرتها ذلك فقالت لا ترين إلا خيراً. ثم طلب يزيد شراءها فأعتقتها وزوجتها منه، واختلفتا يوماً في صوت لحنه معبد من شعر لجرير وهو قوله:

ألا حيّ الديار بسعداني ... أحبّ لحب فاطمة الديارا

أراد الظاعنون ليحزنوني ... فهاجوا صدع قلبي فاستطارا

فاستحضره يزيد ليقضي بينهما وقد أخبر أنه إلى حبابة أميل، فقضى لها فقالت سلامة إنما قضيت للمنزلة ولكن ائذن لي يا أمير المؤمنين في صلته لما له علي من الحق فأذن لها فمضى معبد فوجد سلامة قد سبقت حبابة بالضلة ولم تزل تفتقده حتى رجع.

وهذان البيتان غنتهما قينة للفرزدق عند الأحوص، فقال الفرزدق ما أرق أشعاركم يا أهل الحجاز، فقال الأحوص إنما هو لجرير يهجوك به، فقال ويل ابن المرارة ما كان أحوجه مع عفافه إلى صلابة شعري وأحوجني مع شهواتي إلى رقة شعره، وقيل أن معبداً حين حضر عند الخليفة غنى قول كثير:

ألم يأن لي يا قلب أن أترك الهوى ... وإن يحدث الشيب الملم لي العقلا

على حين صار الرأس مني كلما ... علت فوقه نذافة العطب أعزلا

فيا عزان واش وشى بي عندكم ... فلا تكرميه أن تقولي له أهلا

كما لو وشى واش بودّك عندنا ... لقلنا تزحزح لا قريباً ولا سهلا

فأهلاً وسهلاً بالذي شدّ وصلنا ... ولا مرحباً بالقائل أصرم لنا حبلا

فطرب يزيد حتى جعل الوسادة على رأسه، ودار في الدار وهو يقول: السمك الطري أربعة أرطال عند بيطار حيان. فلما رجع إلى مجلسه ذكر اختلافهما السابق لمعبد، فرجع لحبابة كما سبق، فقالت له سلامة يا ابن الفاعلة تعلم أن الحق معي ولكن قضيت للمنزلة، فضحك يزيد وأحسن صلته وكان البيدق من المهرة في الغناء وكان يختلف إلى حبابة. فلما علت عند يزيد قصدها ليستعطيها وسمعت به فأدخلته وقد جلست مع الخليفة، فقالت له إن هذا أبي وشكرت من صوته وأشارت إليه أن يقرأ فقرأ حتى بكي يزيد ثم أومأت أن يغن فغنى شعر سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بتلحين بن شريح.

من لقلب مصفد ... هائم القلب مكمد

أنت زوّدته جوى ... بئس زاد المزوّد

ثاوياً تحت تربة ... وهي رمس بفدفد

غير إني أعلل النف ... س باليوم أو غد

فطرب يزيد فضربه بمدهن من ذهب مفصص بالياقوت، فأشارت إليه أن يأخذه فأدخله في كمه.

فقال يزيد لحبابة انظري إلى أبيك كيف أخذ مدهننا فقالت ما أحوجه إليه، ثم خرج فأمر له بثمانين ديناراً وغنته يوماً الشعر السابق أول القصه، بتلحين ابن شريح فطرب وقال هل رأيت أطرب مني، فقالت نعم معاوية بن عبد الله بن جعفر، فغضب وأحضره فأرسلت حبابة فأعلمته أن لا يطرب إلا عندما تغني الصوت المذكور، فلما غنته رقص وطرب، وجعل يقول الدخن بالنوى فأمر له يزيد بثمانية آلاف دينار.

وقال لها مرة أخرى من أطرب مني، فقالت مولاي الذي باعني فاستحضره مقيداً، فلما دخل عليه وقد أرسلت من عرفه القصة أيضاً غنت فألقى نفسه على الشمعة حتى حرقت لحيته، وهو يقول الحريق يا أولاد الزنا فضحك الخليفة وأكرمه بألف دينار. ثم لم يزل منعكفاً على الاقامة معها، والمحافظة على اللهو والطرب والشرب، وقيل أنه جعل فسقية من الخمر في مجلسه وكان إذا طرب سقط فيها ومزق حلة قيمتها ألف دينار.

<<  <   >  >>