أكفكف جفن العين والدمع سافح ... كشبه غدير فوق خدي جاريا
فيا ليت شعري ذا البكاء إلى متى ... وحتى متى ذا الحزن والجسم باليا
ثم غيض دمعه، وقال يا أخا العرب كانت لي ابنة عم لا أملك الصبر عنها فتزوجت بها فكانت بي أبر من أمي، وأقمنا مدة لم آل جهداً في الاتفاق عليها، فتعاهدنا على عدم التفرق والاستبدال. فلما أملقت أنفقت مني فأخذت في التحامل والتجنب فقلت لها ماذا تريدين؟ قالت أو فاعل أنت ما أقول؟ قلت نعم، قالت تطلقني فخامرني حبها فقلت قد فعلت. فاعتزلتني وعاودني القلق فألمت طويلاً وجئت وشكوت إليها ذلك وذكرتها العود والمواثيق، فطيبت نفسي وحلفت أنها لا تتزوج ولا تتزين لغيري.
فقمت وجئتها يوماً فوجدتها على أحسن ما يكون من أنواع الزينة فكلمتها فلم تجب، فسألت فقيل لي تزوجت فحلفت لها أن لا آخذ بدلها للبسها وزينتها التي عندي إلا كلبة وفعلت فأنا الآن أمثلها بتذيين هذه الكلبة وأذكر غدرها فأسلبها وأعاقبها كما رأيت.
قلت فهل وقع بينكما بعد ذلك مراسلات قط. قال نعم قد كلفها الذي تزوج بها شططاً وسلمها نقصاً، فندمت فراسلتني فلم أجب مع أنه لم يكن على البسيطة أعز علي منها ولكنها الغيرة تمنعني.
قال الأصمعي فلم أر أغرب منها.
وأخرج في النزهة عن الرياشي، قال اتجر صديق لنا فحمل الصندل إلى شهرزور وقد بلغه أنه نافق. فلما حل بها صادف كساداً، فمكث مغموماً فبينا هو كذلك إذ مرت به عجوز فسلمت عليه بلطف وسألته عن حاله، فشكى إليها ما يجد من الغربة والوحدة وكساد متجره.
فقالت أما الكساد فسيزول ولم تزل الناس على هذا، وأما وحدتك وغربتك فلا أرى لما دواء إلا أن تتزوج بمن تحفظك إذا غبت، وتؤنسك إلى حضرت وتفرج عنك إذا حزنت.
قلت ومن أين لي بما ذكرت؟ قالت أنا الضامنة لك ما تطلب ابتغاء لوجه الله تعالى، فشكرت صنيعها وأمرتها أن تفعل. فما مضت عني إلا وقد جاءت الدلالون فاشتروا البضاعة بأحسن ربح إلى أجل فتوسمت فيها الخير، وجاء فقالت قد هيأت لك ما تطلب فقم لتنظرها.
فمضينا إلى دار لطيفة وقد فرش لي قطيفة بزة، فجلست وجاءت امرأة تسر القلب وتملأ العين إلا أن عليها آثار الحزن وشعار الفرقة، فسلمت بحشمة وجلست فقالت العجوز ها هي فتراضينا ودخلت بها ودمت أسبوعاً في أنعم حال غير أني أجدها تقوم من الصباح فتجلس في موضع يشرف على الأشجار وتبكي حتى ترتفع الشمس، فلم أسألها عن ذلك.
فلما كان يوم وقد أخذها النوم حتى طلعت الشمس، انتبهت مرعوبة ترتعد، ثم ذهبت إلى المشرف وعادت ومزقت أثوابها وجلست تبكي فلم تلهج يومها كله إلا بهذه الأبيات:
أيا عين نوحي بالدموع السواجم ... على طامس بالشرق خافي المعالم
وسحى دماً إن سح دمعك واسعفي ... حليف الهوى من قبل حمل التمائم
إذ ناحت الورقا على فقدانها ... ولم تك ذا عقل فما حال عالم
حرام عليّ النوم إذ فاتني به ... زمان البكا والنوح قبل الحمائم
فضاق صدري لحالها، وراجعت نفسي في سؤالها، ثم غلب علي عدم التصبر بعد أيام وهي تجالسني كالمشغولة وتقوم بما أحتاجه حتى إذا نمت مكثت جالسة حتى يسفر الفجر فتروح إلى المكان الذي يشرف على الشجر كعادتها. فقلت يا سيدتي قد ضاق صدري لحالك. وأنا أعزم عليك إلا ما أخبرتني بما أنت فيه.
فقالت أو لا بد، قلت أي والله. قالت قد كان أبي ذا ثروة وعزة، وكان لي ابن عم قد كفله أبي صغيراً فنشأت وإياه ليس عند أحدنا أعز من الآخر فزوجني منه، فأقمنا لا نستطيع صبراً.
وكان في هذا البستان زوج حمام يبيت فيه ويصبح ويغرد بأنواع التغريد فإذا اختفت واحدة في شجرة دارت الأخرى عليها حتى تكاد أن تموت، فإذا التقينا تعانقا وغردا.
فلما كان يوم مر بهما حمام فطارت إحداهما إليه ومضت فلم ترجع فأقامت الأخرى تغرد كل صباح إلى ارتفاع الشمس، ثم تلقي نفسها كالميتة حتى ذهبت نضارتها وذوى ريشها.